يقول أحد الحكماء "إن عدم التخطيط هو تخطيط للفشل". يبرز هذا القول، بصفة خاصة، على مستوى الدول، دليلا على ما يجب القيام به أمام القضايا المستقبلية المهمة. ولا شك بالطبع أن ما نشهده من حقائق حول الذكاء الاصطناعي يمثل قضية مستقبلية رئيسة يجب الاهتمام بها. ولعل المقالات السابقة التي طرحت مشاهد شملت جوانب البحث والتطوير، والتقنية، والأخلاقيات، والاقتصاد، والتعليم، في مجال الذكاء الاصطناعي، قد عبرت ليس فقط عن مدى الأهمية المستقبلية لهذا المجال، بل عن مدى الاهتمام الفعلي الذي يلقاه في الوقت الحاضر من جوانبه المختلفة على أرض الواقع، في مختلف مناطق العالم.
يقول تقرير "دليل الذكاء الاصطناعي" الصادر هذا العام 2023 عن جامعة ستانفورد الشهيرة، "إن عدد الدول التي وضعت استراتيجيات وخططا وطنية للذكاء الاصطناعي، حتى نهاية 2022، بلغ 64 دولة، بينها المملكة". ويقول التقرير أيضا "إن هناك 14 دولة أخرى تقوم حاليا بإعداد مثل هذه الاستراتيجيات والخطط". وقد تحدثنا عن انطلاق هذه الاستراتيجيات والخطط على هذه الصفحة، في 31 يناير 2019، ثم عن معطيات الاستراتيجية الألمانية في 15 يوليو 2021، وأعقب ذلك طرح لتوجهات الاستراتيجية السعودية في 22 يوليو 2021.
أمام أهمية موضوع الاستراتيجيات الوطنية للذكاء الاصطناعي، كان لي، ابتداء من 2019، مشاركة مع الزميل العزيز الأمير الدكتور بندر المشاري آل سعود، في إعداد دراسة بحثية عن مضامين هذه الاستراتيجيات، بما في ذلك ربطها بتطلعات رؤية المملكة 2030. وقد تم نشر الدراسة، باللغة الإنجليزية، كفصل في كتاب عنوانه "الذكاء الاصطناعي وما يحيط به"، صدر 2021 عن دار النشر العالمية "سبرنجر".
طرحت الدراسة حصيلة الاستراتيجيات المختلفة من خلال إطار عام تضمن شؤون تقنيات الذكاء الاصطناعي، والعناصر التنظيمية المرتبطة بها، والعوامل البشرية والاجتماعية ذات العلاقة، ومعطيات بيئة العمل المحيطة بجوانبها المختلفة. وشملت الاستراتيجيات التي أخذت في الحسبان في هذه الدراسة استراتيجيات 24 دولة، بينها الصين، واليابان، وألمانيا، وإيطاليا، وغيرها.
يشمل تنفيذ استراتيجيات الذكاء الاصطناعي وضع سياسات، تتضمن متطلبات تختص بحوكمة النشاطات المؤثرة بالتنفيذ المنشود، عبر قوانين على الجميع الالتزام بها. وقد رصد تقرير "ستانفورد" سابق الذكر قوانين ترتبط بشؤون الذكاء الاصطناعي حول العالم، ليجد أن مثل هذه القوانين موجود في 31 دولة، وأن عددها الكلي يبلغ 123 قانونا، صدرت خلال الفترة 2016 إلى 2022، وأن ما صدر منها 2022 يبلغ 37 قانونا. من الأمثلة الرئيسة لهذه الدول، تبعا لعدد مثل هذه القوانين فيها، كل من: الولايات المتحدة، والبرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا، وروسيا، إضافة إلى دول أخرى مثل قرقزتان، ولاتفيا، والفلبين، وغيرها.
لعل من المناسب طرح بعض الأمثلة حول القوانين التي صدرت في الدول المختلفة. هناك قانون في إسبانيا يؤكد فكرة المساواة وعدم التمييز في خدمات مخرجات الذكاء الاصطناعي، وقد وردت هذه الفكرة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والمقال المنشور على هذه الصفحة في السابع من ديسمبر الحالي. وهناك قانون أمريكي يهتم بتنظيم التدريب في مجال الذكاء الاصطناعي، وآخر فلبيني حول تنظيم التعليم في هذا المجال، ثم ثالث يختص بالصناعات الإبداعية في قرقزتان، ورابع في لاتفيا يركز على إدراج شؤون أمن الذكاء الاصطناعي ضمن متطلبات الأمن الوطني.
يجري استخدام القوانين سابقة الذكر في تقديم معالجة قانونية لقضايا الخلاف، في مجال الذكاء الاصطناعي، بين جهات متنازعة. وقد شهدت الولايات المتحدة، 2022، طبقا لتقرير "ستانفورد"، 110 قضايا، تمت إحالتها إلى المحاكم في عدد من الولايات، على رأسها كاليفورنيا، ونيويورك، وتكساس، وغيرها. ومثل هذا العدد زيادة في عدد القضايا قدرها 6.5 مرة عن عام 2016. وتضمنت موضوعات القضايا أمورا تتعلق بخدمات الذكاء الاصطناعي، وشؤون الإعلام، والتعليم، والصحة، والسياحة، وغيرها.
تحتاج استراتيجيات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى ما سبق، إلى استثمارات حكومية تعزز حالة الذكاء الاصطناعي في الدولة، وتفعل نشاطاته. وقد قدم تقرير "ستانفورد" إحصائيات حكومية أمريكية حول هذه الاستثمارات. فقد ذكر أن الميزانية الفيدرالية الأمريكية لعام 2023، خصصت 1.84 مليار دولار للإنفاق على البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي، فيما يخص الجانب المدني منه. وذكر إضافة إلى ذلك أن وزارة الدفاع الأمريكية، خصصت في ميزانيتها لعام 2023 1.1 مليار دولار للإنفاق غير المصنف على البحث والتطوير في المجال العسكري.
أبرز تقرير "ستانفورد" حقيقة أن نفقات الحكومة الأمريكية الخاصة بالذكاء الاصطناعي تشمل أيضا مشتريات وعقودا ترتبط ببعض مخرجاته من أجل الاستفادة منها. وقد بلغت قيمة هذه المشتريات والعقود عام 2022 نحو 3.29 مليار دولار. وشملت المشتريات والعقود هذه خمسة موضوعات رئيسة مثل: موضوع علم اتخاذ القرار، والرؤية الحاسوبية، وتعلم الآلة، والروبوتات والتحكم الذاتي، إضافة إلى علم معالجة اللغات الطبيعية.
تتجه الدول التي وضعت خططا وطنية للذكاء الاصطناعي نحو العمل على تنفيذها، واتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة لذلك، علاوة على الاستثمار والإنفاق اللازم لتحقيق التنفيذ المنشود بكفاءة وفاعلية. وتتجه بعض الدول التي لم تضع بعد خططها الوطنية للذكاء الاصطناعي إلى التوجه نحو فعل ذلك، لمواكبة توجهات العصر. وتبقى دول أخرى غير قادرة على هذه المواكبة، وتحتاج إلى مساعدة من سبقها. والحقيقة، أن مصلحة العالم مقرونة بسلامة الإنسان تصب دائما في الحاجة إلى التنسيق والتجانس. صحيح أن للمنافسة نصيب في كل تقدم، لكن المطلوب أيضا أن يكون هناك تعاون على كل تقدم. فمسيرة الذكاء الاصطناعي نحو المستقبل يجب أن تشمل العالم بأسره، وفي خدمة العالم بأسره، في ظل أخلاقيات التنافس الشريف، والتعاون المثمر.
لعلنا في الختام نعود لنذكر "بالاستراتيجية الوطنية السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، الصادرة 2020، التي تحمل عنوانا جذابا يقول "لغد نحقق فيه الأفضل"، وتتحدث عن هدف يسعى إلى "جعل أفضل ما في البيانات والذكاء الاصطناعي واقعا ملموسا"، وذلك في إطار الإسهام بالعمل على تحقيق رؤية المملكة 2030.