حين يخرج علينا في هذه الأجواء الملبدة بغيوم الحرب والإبادة والقسوة اللاإنسانية، صوت لأحد كبار مسؤولي الأمن القومي في إسرائيل، بكلمات عقلانية ومغايرة للنزعة التدميرية للإنسان، فكان لا بد من التوقف أمامه.
صاحب هذه الرؤية هو الجنرال المتقاعد سولومون بروم الخبير الاستراتيجي بالجيش الإسرائيلي الذي سبق أن خدم في مواقع مخابراتية عسكرية، منها نائب رئيس فرقة الأمن القومي لإسرائيل. وهو الآن كبير باحثين بمعهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب. وسبق له أن نشر دراسة عام 2007 عنوانها «فكر الأمن القومي الإسرائيلي والدولة الفلسطينية».
بروم يرى الآن وبعد أحداث طوفان الأقصى أن إسرائيل في مأزق، وليس ما تتصور تحقيقه يأتي بالتصعيد العسكري. ويرى أن سياسة القهر والإذلال لن تجلب سلاماً لإسرائيل، فإسرائيل تواجه أزمة غير مسبوقة، وهي التي أنشئت في البداية تحت شعار حماية اليهود، ثم راحت تغالي في اضطهاد غيرهم، ولا أحد يعرف، بما في ذلك إسرائيل نفسها، كيف يتطور الوضع الحالي بينها وبين الفلسطينيين. والاستراتيجية التي لجأت إليها حكومة نتنياهو هشة ومآلها إلى الفشل.
فإن استراتيجية نتنياهو يمكن أن تنزل خسائر بملايين الفلسطينيين المطالبين بحقهم في حياة طبيعية، والأمر الذي لا خلاف عليه هو أن المضطهدين لا بد أن ينتفضوا ضد من يضطهدونهم. وهذا وضع لا بد أن يفرض على العقل الإسرائيلي الاختيار بين قبول حل الدولتين، أو دولة واحدة لليهود والعرب معاً.
وبمحاذاة هذه التوقعات المدروسة للجنرال بروم، تتابعت نظرات من المتخصصين عالمياً في تحليل موقف إسرائيل والنفاذ إلى أعماقه، بعيداً عن النظرة السطحية التي تملكتها غريزة الانتقام من دون أي حساب للنتائج. من ذلك ما طرحه الخبير اليهودي روجر كوهين في صحيفة «نيويورك تايمز»، الذي راح يطرح تساؤلات عن قدرة الجيش، والمخابرات، والحكومة، في السيطرة على ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضٍ تحتلها إسرائيل.
وفي نفس المسار قال يوفال شاني أستاذ القانون الدولي بالجامعة العبرية في القدس، إنه لسنوات عديدة وجد افتراض نظري داخل إسرائيل بأن المشكلة الفلسطينية، لم تعد مشكلة، وإن سياسة التسويف والتوسع في المستوطنات بالضفة الغربية هي التي ستضمن عدم حدوث رد فعل فلسطيني معارض لتصرفات إسرائيل، لكن غاب عن أصحاب هذا التصور أن شعور الفلسطينيين بالمهانة، وتهميشهم في بلادهم، سوف يؤدى إلى موجات العنف التي جرت مؤخراً.
وتعلن ديانا بوتو المحامية الفلسطينية التي تعيش في حيفا، أن ما حدث ليس فشلاً أمنياً إسرائيلياً فحسب، لكنه أيضاً فشل في طريقة تعامل العالم مع النزاع الإسرائيلي– الفلسطيني، فنحن نصحو من نومنا كل صباح على عنف ضد الفلسطينيين، ونذهب إلى فراشنا كل مساء على نفس العنف، ولا تغيب عن نظر من لديهم نظرة مخالفة لما ترى به الحكومة الإسرائيلية الأحداث الراهنة ونتائجها المستقبلية، الرؤية التي سبق منذ سنوات أن طرحها الناشط الإسرائيلي يوري أفنيري، الذي قال إن ما يحدث للفلسطينيين قد تسبب في جعل كل يهودي في إسرائيل هدفاً مشروعاً للقتل.. وهذا بالطبع لن يساعد على حل القضية الفلسطينية.
بمحاذاة ذلك أعلن البروفيسور ستيفن والت بجامعة هارفارد، أن أمريكا طالما ساندت عملياً موقف إسرائيل من النزاع مع الفلسطينيين، على عكس ما تعلنه عن رغبتها في إيجاد حل يرضى الطرفين، وأن الانفجار الأخير للعنف أكد إفلاس السياسة الأمريكية، والتي غضت بصرها عن محاولات إسرائيل طوال عقود التهام الأراضي التي يفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية. ويشارك ستيفن والت، معهد كوينسي الأمريكي للدراسات السياسية، ويقول: حان الوقت لإنهاء العلاقة الخاصة مع إسرائيل. وإذا كان هناك ما يبررها في زمن مضى، فإن شراسة سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين، قوضت أي سبب للتأييد الأمريكي بلا حدود لإسرائيل.