يجيد الخبير المتخصص التقاط الدرة الأجمل، مهما امتلأت الأجواء بالكثير من المغريات السينمائية، وهذا هو تحديدًا ما يميز اختيارات مدير مهرجان (الجونة)، الخبير السينمائي، انتشال التميمي في انتقائه للأفلام.
ربما يعتقد البعض أن الفيلم الفائز مثلًا بسعفة (كان)، مثل (تحليل السقوط) لجوستين تريبيه، التي شاركت أيضًا في السيناريو، لا يحتاج لاختيار، فهو يفرض نفسه بعد أن توج بأهم جائزة، إلا أن من يعلم ما يجرى في (الكواليس) يدرك أن الأمر يحتاج إلى قدرة استثنائية على التفاوض، (الجونة) ليس وحده في الحلبة، كما أنه ليس أيضا الأغنى، ولكنه يمتلك قوة تفاوضية تتكئ على خبرة تصل إلى أربعة عقود اكتسبها انتشال، ومنح الكثير من تلك المفاتيح لتلاميذه.
عندما أعلنت جوائز (كان) جاء تفسير البعض أن المهرجان، أو تحديدًا لجنة التحكيم، قررت أن تواصل الانضمام إلى شعار الانحياز للمرأة المخرجة، خاصة إن (كان) متهمًا مسبقًا بالوقوف ضد المرأة، وتضاءل عدد الأفلام في المسابقة الرسمية التي تخرجها النساء، كم من مرة عايشت تظاهرات نسائية لا تخلو من رجال تتهم المهرجان بالتنمر ضد المرأة.
هذه هي السعفة الثالثة طوال تاريخ (السعفة الذهبية) من واقع 76 دورة، وهي نسبة قليلة جدًا كما ترى، والأقل منها الأوسكار 95 دورة لم تفز بأفضل فيلم سوى أيضاً ثلاث نساء.
هذا لا يعني بالضرورة أنها مقصودة، كما أنه على الجانب الآخر لا يعني أيضاً أن المطلوب لرفع الظلم منح المرأة جائزة استحقتها أم لا؟
في الفن تحديداً يجب فرض قيود خارجة عن الإبداع، تحول دون اختيار الأفضل، وهكذا أرى استحقاق فيلم (تشريح السقوط) جائزة (كان) دون أن نضع في المعادلة أن المخرجة امرأة.
الظلم الأكبر يقع على الشريط السينمائي، لو اكتفينا بتوصيفه على اعتبار أنه فيلم جريمة، لدينا جثة قتيل، وعلينا أن نعثر على القاتل، ليس هذا هو أبداً (تشريح السقوط).
الفيلم يترك مساحات غامضة في كل الشخصيات، علينا اكتشافها، أنه سؤال عن الحقيقة التي كثيرًا ما نعتقد في لحظات أننا أمسكنا بها، بمجرد امتلاكنا لدليل إثبات، حتى لو كان، هناك دليل نفي، أو في الحد الأدنى تشكيك في قوة الدليل، ولهذا في العالم كله، لا يحكم القاضي بالإدانة إلا مع دليل قطعي، ويميل للبراءة لمجرد الاحتمال.
لسنا بصدد الثالوث الدرامى الشهير (الزوج والزوجة والعشيق)، وتبدأ أنت في حل اللغز، لكنها ثلاثية الزوج والزوجة والطفل، والأخير يعاني من إعاقة بصرية، وهو الشاهد الوحيد على الجريمة، لو صحت أنها جريمة ومع سبق الإصرار، مما يجعل القضية مستحيلة الإثبات القطعي.
الطفل يكتشف مقتل والده وسقوطه من أعلى، ومن هنا جاء العنوان (تشريح السقوط) هل هو متعمد؟ أم أنه تعثّر في الطابق الأعلى وفقد توازنه؟ أم ربما جريمة متكاملة الأركان دبرتها الزوجة.
مساحات الغموض كثيرة، وأنت لا تستطيع أن تملأها، موقناً من الحقيقة، والأهم أن هذا ليس هو تحديداً ما تبحث عنه المخرجة، لكنها أولاً وثانياً وحتى عاشراً، تريد إثارة الخيال بالتأمل في تفاصيل الشخصيات.
ليس مطلوباً منك أن تتقن تحديد ملامح الشخصيات، ولا دوافعها وأنت مطمئن تماماً إلى صدق رؤيتك، فلا توجد خطوط قاطعة تبني عليها الموقف، ولكن هناك مساحات واسعة من الحيرة، وهذا هو ما اعتمد عليه بناء السيناريو، الذي قدّم في أحد المشاهد صوتاً فقط. هذه هي الوثيقة التي احتفظ بها عقل الطفل شبه الكفيف، عن صراع بين الزوج والزوجة وصوت ارتطام، فهل تكفي لكي تنتهي إلى الإدانة؟
الفيلم قطعاً استحق السعفة، ودفعني مجددًا لقراءة متأنية لسينما لا تقدم إجابة، ولكن يظل ترديد السؤال أثناء وبعد الفيلم هو الإجابة!!

