: آخر تحديث

مأزق الإنسان مع وثيقة حقوق الإنسان

36
21
24
مواضيع ذات صلة

الإنسان والإنسان حشد من المتناقضات منذ أن وعى الإنسان أنه حيوان مميز بالعقل عن بقية إخوته في عالم البيولوجيا، ولا ندري إن كان من حسن حظه او من سوء حظه، أنه تميز في هذا العالم الحي عن بقية الأصناف الحية التي لم يتطور عضو المخ فيها من مجرد التحكم العضوي والفطري الى الإبداع الفكري. التناقضات مصدرها الإرادة، والإرادة من العقل وليس من الفطرة. والإنسان سيد الكائنات والموجودات بما أفرزه العقل من إرادة في العمل وملكة الابتكار والاختيار، ومع الأسف الجارح قدرته وإرادته وخياره في زرع النقيضين، وهما العدل والظلم، في شبكة علاقته بنفسه، أي علاقة الإنسان مع الإنسان في مجتمع العمل والانتاج. عندما اصطك وتلاطم العدل مع الظلم انطلقت صرخة «أين حقي؟!»، وكانت صرخة الوعي من الذات من أجل الحفاظ على سلامة الذات وطهارتها من دنس الظلم وإحقاق العدل الذي هو من حقها.

كانت في بداياتها صرخة مكبوتة تتآكل منها النفس، ومن ثم خرجت من محبس النفس الى الهمس بمخاطبة النفس، الى أن تفجرت صرخة مسموعة مدوية، سمعها الداني والقاصي، الظالم والمظلوم، ومن يحوم حولهما ممن لا حول له ولا قوةً إلّا بالتعاطف المكبوت او شيئًا من التعبير، الى أن يقول التاريخ كلمته ويقلب صفحة الى صفحة جديدة، وهكذا تتوالى صفحات «أين حقي؟» في سِفْرِ التاريخ الى الزمن الذي تطمئن فيه الذات البشرية أن سلامة ذاتها قد تحققت بسيادة العدل، وما زال هذا العدل بعيد المنال.

ما زال «أين حقي؟» يتموضع في علاقة الإنسان بالإنسان منذ أول معول بدائي بسيط ضربه في الارض كي يُنْبِتَ له من الارض ثمارها، الى هذا اليوم حيث الارض كلها وبيسر تستجيب لجبروت الصناعة المعقدة لتنتج للإنسان أصنافًا من الثمار الطبيعية والثمار المعدلة جينيًا، وبكميات تفوق القدرة العضلية للإنسان بالوف المرات.. و«أين حقي؟» يتنقل مع الإنسان من عصر الى عصر، ومن تقدم الى تقدم، ومن إنجازات علمية الى إنجازات ثقافية، ولا معين ولا مستجيب، اللهم إلّا بطرف اللسان حلاوة وبرسم الكلام زينة. والإنسان في غالبيته العظمى، أمام نخبة قليلة ضئيلة معروفة العدد من إخوته في الإنسانية، ما زال يمد يده مستجديًا حقه المسلوب والمنهوب والمنقوص، ورنين «أين حقي؟» يرهقه ويجرح كرامته، وفي المقابل يزعج النخبة التي تسد آذانها كي لا يصل رنينه الى موضع ضمائرها. والضمير حي يستحيل ان يموت، ولكن جشع الإنسان وأنانيته تحبس الضمير وتعطل دوره الإنساني الطبيعي حتى لا يسمع صوته وأوامره الملزمة، مثل الذي يمنع وصول قضية الى قاضٍ عادل، والضمير في أعماق نفوسنا هو القاضي العادل.

نداءات «أين حقي؟» تأثر بها أصحاب الضمائر الحرة الطليقة من أهل الفكر والعلم والفلاسفة، وهؤلاء عندما سمعوا النداء أدركوا أن بين الإنسان وأخيه الإنسان بون من الظلم يخل بميزان العدل، وانه من واجبهم الإنساني العمل على تعديل الميزان بما تجود به ألسنتهم وأقلامهم من أفكار وعبر وحكم ودروس في الفضيلة والأخلاق. بموازاة هؤلاء الداعين الى الفضيلة انبرى من بين طبقة الحكام ندرة من الملوك استجابوا لنداء «أين حقي؟»، وعلى رأس هؤلاء الملوك الملك البابلي حمورابي الذي سن أول قانون في بلاد ما بين النهرين لإحقاق الحق للمظلوم ومعاقبة الظالم، وقانون حمورابي لم يغفل كذلك حق المرأة في الأحوال الشخصية. بمفهوم العصر الذي يعود الى 1790 قبل الميلاد فإن شريعة حمورابي ترقى الى مستوى «وثيقة حقوق الإنسان» التي يتبجح بها سادة منظمة الأمم المتحدة اليوم. والفرق بين حمورابي والأمم المتحدة هو أن الملك العظيم حمورابي طبق شريعته في دولته بندًا بندًا دون تفريط في حقوق الإنسان، بينما اليوم وبعد أكثر من 3700 عام فإن حضارة اليوم بجهازها العالمي، وهو منظمة الأمم المتحدة، لم تتقدم قيد أنملة في تطبيق قانونها العالمي الذي سمته دون استحياء «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان».. وثيقة معطلة من واقع أنها صادرة من الجمعية العمومية وغير مصدقة من قبل مجلس الأمن، فهي غير ملزمة، حالها حال غيرها من المواثيق والاتفاقيات التي استهلكت الجهد والحبر والورق وخيبت آمال الشعوب والأمم. ورغم خيبة الأمل في هذه المنظمة العالمية، التي أنشئت بعد حربين طحنتا الملايين من البشر بسبب الصراع بين الدول الاستعمارية، إلّا أن كبار السادة فيها وهم خلفاء الاستعمار، هم الذين يتربعون على خمسة عروش فيما أسموه «مجلس الأمن» ما زالت مصالحهم، من نهب خيرات الشعوب الضعيفة، تقف حجر عثرة أمام تطبيق بنود هذه الوثيقة المسكينة التي سُمِّيَتْ بغير اسمها الحقيقي. هذا يدفعنا أن نعرج على فلسفة «الظاهر والباطن»، إذ أنه في الظاهر نحن أمام كلمات نطقها «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان»، بينما واقع الحال على ارض الواقع وما تشتكي منه الشعوب والأمم، وتواصل نداء «أين حقي؟»، هو الباطن الذي يشعر بوخزات «الميثاق الاستعماري لاستعباد الإنسان».

الأمم المتحدة تجسيد لواقع عالمي غير عادل، اذ تستفرد الدول الكبرى، وهي خمس دول، بزمام السلطة في مجلس الأمن، بينما بقية دول العالم، وهي 193 دولة، أعضاء في الجمعية العمومية، 188 عضوًا فيها دون سلطة، والسلطة التنفيذية تتمسك بها 5 أعضاء كبار يتسيد عليهم العضو الأعظم الذي يطمح الى سيادة العالم كله تحت سلطة حكومة عالمية واحدة، وهذا الطموح يعود الى عهد الإسكندر المغامر قبل اكثر من 2300 عام.

صامويل موين، أستاذ القانون في كلية ييل للقانون وأستاذ التاريخ بجامعة ييل، يعبر عن هذا التضارب بين القول والفعل من منظمة الامم المتحدة في كتابه الصادر حديثًا تحت عنوان «ليست كافية - حقوق الإنسان في عالم من اللا مساواة».

( Not Enough - Human Rights in an Unequal World... Samuel Moyn).

«الميثاق العالمي لميثاق حقوق الإنسان» الصادر من الجمعية العمومية يدخل في إطار التوصيات الى الدول الأعضاء، وهي توصيات غير ملزمة، أي أن «ميثاق حقوق الإنسان»، كنص مكتوب، لا يختلف عن أي كتاب أدبي يباع في المكتبات. عندما يجهد الكاتب فكره ويؤلف كتابًا فإنه يبلغ الى القراء رسالة او تجربته الشخصية او إبداعه الأدبي - الجمالي، وإن كل ما يدونه الكاتب متروك لفهم وتقييم القارئ، وهكذا الحال مع «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان»، إذ إن هذا الإعلان العظيم! الذي تتشدق به منظمة الأمم المتحدة ليس سوى كلمات منمقة أقرب الى الشعارات منها الى عمل ادبي كامل الأركان، وليته كان فيه شيء من خطوط الأدب حتى يكون له تأثير في نفوس من بيدهم سلطة الأمم المتحدة المتمثلة في الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.

حقوق الإنسان على الورق تتارجح بين الحبر والأمل، رائحة خبز دون خبز.. فهي بعد لم تصبح نطفة في رحم الواقع، إذ بعد لم يتم التلقيح بين الصلب (الجمعية العمومية) والرحم (مجلس الأمن) حتى يولد حقًا «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان»، وما زال «أين حقي؟» يراوح مكانه في نفوس البشر دون شعور بالأمل في المستقبل المنظور.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد