: آخر تحديث

تنمية القدرات البشرية .. الجانب الثقافي

15
19
20
مواضيع ذات صلة

ترد كلمة ثقافة في حياتنا مفردة لا تحمل أي وصف، كما ترد أيضا مقترنة بصفة أو أكثر. وهي في ذلك تتمتع بأبعاد متعددة تشمل بعدا يحمل المعنى العام للكلمة المفردة، وتتضمن أبعادا أخرى تنطلق من المعنى العام من جهة، وترتبط بمعنى كلمة الصفة من جهة أخرى. فهناك معنى عام لكلمة الثقافة، ثم هناك - على سبيل المثال - معنى مركب لتعبير الثقافة العلمية الذي يطبق المعنى العام للثقافة على المجالات العلمية.
إذا نظرنا إلى المعنى العام للثقافة، فلعلنا نعود إلى تعريف الثقافة، كما طرحه إدوارد بيرنت تيلور Edward Burnett Tylor في القرن الـ 19 للميلاد. يقول التعريف إن الثقافة هي ذلك التكوين المعقد الذي يشمل المعرفة، والإيمان، والأخلاق، والقانون، والتقاليد، وأي خصائص أخرى وعادات يكتسبها الإنسان في مجتمعه. وقد اختصرت الموسوعة الأكاديمية الأمريكية هذا التعريف ووضعته في جملة كلمات محدودة تقول إن الثقافة هي السلوك المكتسب من قبل الأفراد المنتمين إلى مجموعة اجتماعية محددة.
يبقى تعريف تيلور، وكذلك الاختصار السابق، غير كافيين للإحاطة بمعنى الثقافة. فالإنسان ليس أسيرا فيما يكتسبه، وكذلك فيما يوجه سلوكه، لمعطيات مجتمعه فقط، بل هو صاحب عقل مفكر، ميزه الله به عن سائر مخلوقاته. بهذا العقل يستطيع الإنسان تقييم ما اكتسب في مجتمعه، من خلال فكره، وتراكم معارفه وخبراته، ومعطيات عصره، ليصل من خلال ذلك إلى ثقافة متطورة، تنهل من ثقافته الأصلية، وتضيف إليها ما يثريها، وما يمكن أن يفتح له أبواب النجاح بشكل أفضل. ولا شك أن لهذا الأمر أهمية خاصة في بيئة المعرفة والعولمة التي يعيشها الإنسان في هذا العصر، حيث باتت هناك مصادر عديدة، تؤثر في بناء ثقافة الإنسان، وتوجيه سلوكه، وتفعيل عطائه ومنجزاته.
وهناك في إطار ما سبق ملاحظتان مهمتان تستحقان الطرح. تقول الملاحظة الأولى: إن عطاء الأمم عبر التاريخ، وهو في الحقيقة عطاء أبنائها، يتزايد في حقب قوتها، ويتناقص وربما يتوقف، في حقب ضعفها. أصحاب العطاء في هذه الأمم متماثلون، لكن البيئة الثقافية المحيطة بهم في فترات القوة تتغير. وتتمثل هذه التغيرات في تعزيز المعرفة، وتفعيل التفكير، وتحفيز التعاون والتنافس، وتركيز التوجهات، واستغلال القدرات، لتفرز بذلك منجزات مفيدة، وربما غير مسبوقة، تعزز حضارة الأمة المعنية، وتسهم في الحضارة الإنسانية. ترتبط الملاحظة الثانية بسابقتها، وترى أن العصر الحديث يمثل حقبة جديدة في حياة الإنسان تحمل خصائص متفردة. وتتمثل هذه الخصائص، بانفتاح معرفي وتفاعل ثقافي واسع النطاق، يمكن الأمم المختلفة من الانطلاق نحو التعاون والمنافسة والعطاء، وتقديم منجزات متميزة ومتجددة. ودليل ذلك أن مراكز الإنجاز العلمي والتقني لم تعد تقتصر على دول الغرب، بل انتقلت أيضا عبر التعاون والتنافس أيضا إلى كثير من دول الشرق. وهي مفتوحة للانتقال إلى أي منطقة من العالم تملك ثقافة الطموح إلى التميز، وإرادة العمل على ذلك. ولعل بالإمكان القول هنا، إذا كانت النمور الآسيوية قد استطاعت فإن الصقور العربية ستستطيع بإذن الله.
يهدف برنامج تنمية القدرات البشرية الصادر عن رؤية المملكة 2030، إلى بناء المواطن المنافس عالميا. وقد أدرك البرنامج أهمية الثقافة كمعنى عام تقترن فيه جذور بيئة النشأة والانتماء مع المعرفة والتفكير وحسن السلوك. وتفهم البرنامج أيضا دور هذا المعنى العام في مجالات الحياة المختلفة. ففي وثيقة البرنامج المكونة من 96 صفحة، تم ذكر الثقافة فيها 45 مرة، أي: بمعدل مرة واحدة كل صفحتين تقريبا. وسنبين فيما يلي مجالات اهتمام وثيقة البرنامج بالثقافة، من خلال تقسيم هذه المجالات إلى قسمين رئيسين: مجالات تعنى بالاستيعاب الثقافي والتواصل مع الآخرين، ومجالات أخرى تهتم باكتساب ثقافة العمل، والعطاء، والإنجاز، والتميز.
يسعى برنامج تنمية القدرات البشرية، في مجالات الاستيعاب الثقافي، إلى تفعيل إدراك الجميع، خصوصا الناشئة بأهمية ثقافة النشأة من جهة، والحاجة إلى تطويرها بما يتناسب مع متطلبات الحياة من جهة أخرى. ففي أهمية ثقافة النشأة يركز البرنامج على جانب الانتماء والمسؤولية الوطنية، وثقافة التسامح والوحدة الوطنية، ويؤكد البرنامج أيضا الاهتمام باللغة العربية التي يفرد لها مبادرة خاصة ترعى وزارة الثقافة أمر تنفيذها.
ويطرح البرنامج في مسألة التطوير الثقافي موضوعا يرتبط بمحو الأمية الثقافية، بما في ذلك تفهم ثقافات الآخرين، حيث يسهل ذلك التعاون وكذلك التنافس معهم، ففهم الآخر مطلوب في كلتا الحالتين. وهناك في البرنامج، طرح يركز على وجود مسار للثقافة في المرحلة الثانوية من التعليم، حيث يعزز ذلك الوعي الثقافي لخريجي هذه المرحلة. ويتطلع البرنامج إلى تفعيل الثقافات الفنية والأنشطة الرياضية، كما يسعى إلى إثراء ثقافة الجمهور، حيث يدعو إلى منتجات ثقافية إعلامية يمكن نشرها على نطاق واسع.
وفي مجالات ثقافة العمل والعطاء والإنجاز والتميز يهتم برنامج تنمية القدرات البشرية بعدد من التوجهات. فهو يدعو إلى ثقافة العمل الجاد، والعمل الجاد هو بالطبع العمل المنتج الذي يتمتع بأداء متميز، ويركز البرنامج في هذا المجال على تفعيل هذه الثقافة بين الطلاب كي تبقى معهم فيما بعد، في حياتهم الشخصية، وعند انتقالهم إلى سوق العمل. ويهتم البرنامج بثقافة الابتكار وريادة الأعمال، ويركز أيضا على ثقافة التعلم مدى الحياة الداعمة لكل منهما. ويهتم البرنامج بثقافة التطوير الذاتي المفيدة للجميع، ويضيف إليها ثقافة العمل التطوعي التي تستجيب لاحتياجات الآخرين.
ليست هناك جهة واحدة مسؤولة عن تنفيذ برنامج تنمية القدرات البشرية، بل هذه المسؤولية تقع على عواتق مجموعة من الجهات المعنية بتنمية الإنسان، وتفعيل إمكاناته، وتمكينه، والاستفادة من قدراته وعطائه. وإذا كان الحديث هنا عن الجانب الثقافي من تنمية الإنسان، فلعل الدور الرئيس في هذا المجال يقع على عاتق وزارة الثقافة، ربما بالتعاون مع وزارتي التعليم والإعلام. والأمل كبير أن تقوم هذه الوزارة الفتية بالدور الحيوي المنشود.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد