: آخر تحديث

شرف العودة نحو الحضارة الزراعية

29
30
34
مواضيع ذات صلة

ببساطة الفلاحين وذكائهم الفطري احتل جدنا اللبناني فارس الخوري مندوب سوريا في عام 1946، المقعد الخاص في مجلس الأمن بالمندوب الفرنسي الذي فوجئ بأن ممثل سوريا الدولة التي تديرها وتنتدبها فرنسا يجلس مكانه. طالبه أولاً بالانتقال إلى مقعده المخصص بسوريا متصوراً بأن الرجل تاه في المجلس الدولي، لكن الفارس تجاهله كلياً ولم يلتفت إليه؛ بل أخرج ساعته المعلقة بسلسال من جيب سترته وراح يتأمل فيها. استشاط المندوب الفرنسي رافعاً صوته صارخاً لرئيس المجلس الذي راح يقرع بمطرقته من بعيد معلناً افتتاح الجلسة، ومندوبو الأمم يستديرون نحو مصدر الضجيج الذي ملأ المكان.

وقف الخوري، بعد برهة وتدخلات وتجمعات من حوله أمام «الميكروفون» وخرق بالفرنسية صمت الجميع وانتباهه، وقال: بالنظام حضرة الرئيس. نحن نجتمع اليوم في هذا الصرح الدولي العظيم كي نناقش بند إمكانية نيل استقلال سوريا التي أمثّلها. لقد جلستُ على مقعد مندوبها 10 دقائق فقط عن سابق تصوّر وتصميم، فرأيتم جميعاً كيف فقد أعصابه وجنّ جنونه وسادت الفوضى في القاعة والمندوبين الذين أحترمهم وأعتذر منهم. إن دولته فرنسا تحتل سوريا منذ 30 سنة فلا حاجة بعد لأن أدلي لحضراتكم ما فعلت بشعبنا وبلدنا خلال هذا الزمن الطويل. أما آن لنا أن نستقل وترحل عنّا ونعفيكم جميعاً من هذا النقاش الممل.

صفّق الجمع الدولي كله وقوفاً بلا استثناء ما خلا المندوب الفرنسي الذي بقي واقفاً مندهشاً وحيداً... وهكذا كان استقلال سوريا بأقصر جلسة خاطفة في تاريخ المجلس.

أثناء دراستي في باريس رحت أنقّب في عام 1974، في وثائق ال«كي دورسيه» التابع لوزارة الخارجية الفرنسية المسموح بتداولها، وللحقيقة لم أجد سوى سطرين فقط لم ينشرا قط من قبل باللغة الفرنسية:

Fares bey koury, avocat,chérifien, islamophile,….etc... deteste la homme rénal,écouté, retors,éloquenttrès dangeureux France:

أي: «فارس بك الخوري، محام، زعيم، محب للمسلمين.. إلخ. يحتقر فرنسا، يعشق الماضي، مسموع، داهية، فصيح، خطِر جداً».

لا أتصوّر أن لمعظم زعمائنا ومسؤولينا اليوم الكثير في أرشيف الدول العظمى، مع أن «ويكيليكس» أمس و«بندورا» أمس واليوم، تنشر محاضر الاجتماعات ووقائعها المعيبة بين بعض زعمائنا ومبعوثي الأمم والسفراء ناهيك عن المحاصصات والسرقات ونهب الشعوب في لبنان وغيره من فضائح كارثية.

قلت بساطة الفلاحين، لأن يعقوب والد فارس الخوري كان نجاراً حرفياً لا «للموبيليا»؛ بل لأدوات الفلاحين القديمة من «النير» الذي يوضع فوق رقاب الثيران، إلى العود والمحراث الذي يمسكه الفلاح إلى «المسّاس» الذي يوجه فيه خطوط الفلاحة ويحرص على استقامتها ليدعى فلاحاً ماهراً.

كانت أمنية والده أن يصبح ولده الفارس نجّاراً، بينما كان جده جبور «طبيباً» عربياً يداوي المرضى في منطقة حاصبيا في جنوبي لبنان مجاناً بخلط العقاقير، وقد تأثر به فارس كثيراً، لكنه كان يردد قائلاً: الكتابة مثل الفلاحة وهي تتبعها وتقلدها وإنني أوصي وأتصوّر بأن الحضارة بأبعادها الخطابية والكتابية والسياسية والوطنية لربّما جاءت أساساً انعكاساً للحضارة الزراعية الأولى في تاريخ البشرية والإنتاج، لأن الأثلام المستقيمة التي يتباهى بها الفلاحون عندما تغور سككهم في الأرض هي القاعدة الذهبية في نجاحهم وشهرتهم لا الأثلام المتعرّجة التي تُقشّر التراب تقشيراً سطحياً في الحقول. الأساس الجوهري في الكتابة هي المواقف المستقيمة التي نستقيها ونربطها بالأثلام المستقيمة لدى جدودنا الفلاحين.

الظاهرة الغريبة أن فارس الخوري بمواقفه وخطبه ونوادره ما زالت تتناقلها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من كافة الفصائل المتناهضة في سوريا مع أنه مولود عام 1877، في الكفير في الجنوب اللبناني وتوفي في عام 1963 وكنا في زمن العثمانيين تابعين لدمشق. تُنغّصني؛ بل تقتلني تلك الطائفية في لبناننا المتعب، وأعلن أن فارس الخوري المسيحي الذي كان وزيراً للأوقاف الإسلامية في سوريا، أبلغه الجنرال غورو يوماً أن فرنسا جاءت إلى سوريا لحماية المسيحيين في الشرق، فما كان منه إلا أن قصد الجامع الأموي يوم جمعة وصعد إلى منبره قائلاً: «إذا كانت تدعي فرنسا كما سمعت، أنها تحمينا نحن المسيحيين من المسلمين، فإنني من هذا المنبر أقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله». أقبل عليه الدمشقيون وحملوه وطافوا به أحياء دمشق القديمة وهم يهتفون معاً: «لا إله إلا الله». لم يكونوا مسلمين ولا مسيحيين، لكنهم كانوا سوريين عرباً. أنشر هذا بحنين لعودة لبنان إلى اللبنانيين؛ بل عودتهم إلى العرب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد