: آخر تحديث

السياسة الثقافية

45
41
47
مواضيع ذات صلة

إن أسوأ ما في الكتابة هو تكرار البديهيات، لاسيّما حين تتوجه إلى مجتمع واعٍ مثقف ومتعلم، ولهذا فإن القول بأن الكتاب يعمل على تنوير العقل ورفده بالمعلومات، ويساعده على توسيع المدارك، وفتح آفاق جديدة هو قول أو أقوال باتت ممجوجة جداً، ولا تحتوي على أي فكرة جديدة أو مبدعة، وتُستخدم فقط في موضوعات الإنشاء لطلبة المرحلة الإعدادية، أو في التصريحات المباشرة للبرامج التي يطلقون عليها توعوية. 
 ودرجة السوء في هذه الكتابة تعتمد على كاتبها، فإذا كان محسوباً على الأدباء أو المبدعين فإن الدرجة ستكون عالية؛ إذ من المفترض في الإبداع الذهاب إلى ما بعد البديهي والتقليدي والمطروق، لهذا حين نتحدث عن السياسة الثقافية فإننا لا نعني الأهداف التنويرية للثقافة بقدر ما نرمي إلى صناعة الاستراتيجيات الثقافية، والذهاب إلى ما بعد التنوير، فالتنوير هو إدراك الموجود من معارف ومعلومات وثقافات وعادات وتقاليد وسلوكيات، أما ما بعد التنوير فيتعلق بانعكاس الثقافة على الفرد، في طريقة تفكيره، في توجهاته المجتمعية أي في علاقاته مع أفراد المجتمع وعلى رأسهم أفراد الأسرة، أي في السلوك الثقافي المتقدم، ونشر هذا السلوك كقيمة ثقافية في الأسرة والمجتمع، وهو عمل لا يتعلق بالتعليم أو حشو الرؤوس بالمعلومات، وإنما يتعلق ببناء قاعدة تتيح لأفراد الأسرة وبالتالي المجتمع التخاطب والتحاور بأساليب ثقافية، بعيداً عن التزمت والتعصّب والعصبية ومصادرة الرأي والمزاجية، والإيمان بإتاحة الفرصة للجميع للتعبير عن آرائهم والمشاركة في الحوارات المطروحة، لا سيما ما يتعلق بالخير العام ونقل المجتمع إلى مرحلة الانسجام الفكري، وهذا الانسجام لا يعني التفكير بطريقة واحدة، وإنما إدارة الاختلاف بأساليب حضارية، والمضي بالحوار من دون الخروج منه بعداوات شخصية، فالشخصنة مرفوضة في الحوار الموضوعي العقلاني، ومن شروطه احترام وجهة نظر الآخر، وهذه النقطة الأخيرة هي غاية السياسة الثقافية والفعل الثقافي.
 لقد قيل إن الإنسان هو الأسلوب، والأخير يتطلب خلق صيغة لغوية في الحوار، وترسيخ عبارات عقلانية تظهر استيعاب الرأي الآخر وطرح الرأي الجديد، كأن نقول لمن نختلف معه: «أستطيع فهم وجهة نظرك لكن اسمح لي أن أختلف معك في هذه الفكرة أو تلك». ولا نقول كما اعتاد البعض القول: «كلا كلا، أنت لا تعلم شيئاً في هذا الأمر ودعني أقُلْ لك الحقيقة». وهذا الإنسان لا يعرف أن للحقيقة عدة وجوه، والبحث عن الحقيقة عمل متواصل لا يتوقف عند فكرة محددة أو نظرية معينة، ولو عرف الإنسان الحقيقة لتوقف عن تحصيل العلم، وباتت الأمور جامدة صامتة لا حياة فيها، والواقع أن هنالك دائماً حقيقة جديدة.
 السياسة الثقافية التي ينشدها العمل الثقافي هي الوصول إلى مجتمع يتحاور بهدوء في القضايا الساخنة، والاجتهاد متاح لكل ذي معرفة وثقافة، وهو مطلوب علماً وشرعاً، ولو توقّف باب الاجتهاد لتوقف الانبهار، وبات كل شيء رتيباً لا طعم له ولا رائحة، وهنا نصل إلى أهمية التجديد المتواصل في أساليب الحصول على ثقافتنا، والكتاب إحدى هذه الوسائل، فهو وعاء لا تنضب مياهه، وكلما غرفنا منه شعرنا بحاجتنا للاستزادة.
 لعل مناسبة هذا الطرح معارض الكتب التي تنتشر في دولتنا الحبيبة، ونعيش هذه الأيام مع معرض الشارقة الدولي للكتاب المليء بالعناوين المختلفة، وغاية القول أن الحرص على اقتناء كتاب في ثقافة مغايرة أهم من اقتناء كتاب في ثقافة معروفة، وذلك ليتحقق الهدف الأسمى من السياسة الثقافية، وهو محاورة الاختلاف، والتعرف إلى المجهول في الحضارات الإنسانية.
 إن توفير معارض الكتب والفنون التشكيلية والتكنولوجيا والعلوم على كافة أجناسها، والحرص على إقامتها يقع في صميم السياسة الثقافية التي تنشد الارتقاء العقلي والفكري والانفتاح على الآخر والتحاور معه برقي وإنسانية؛ إذ ليس أقسى من مصادرة فكرة تجهلها، فهذا إصرار على ممارسة الجهل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد