تدخل الهدنة المؤقتة المتفق عليها بين حركة حماس وإسرائيل يومها الثالث، وتستمر عملية تبادل الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين وسط ترقب حذر بين الجانبين بشأن ما سيحدث بعد انتهاء الأربعة الأيام المحددة للهدنة. تتابع الصحف الصادرة اليوم عملية التبادل وترصد ردود الفعل على الجانبين وحول العالم.
صحيفة التلغراف البريطانية تابعت وصول الرهائن والسجناء إلى ذويهم، وكتب جيك واليس سيمونز مقال رأي حول "كيف ستغير أزمة الرهائن الإسرائيليين العالم إلى الأبد".
يقول الكاتب إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية والمواطنين العاديين على السواء، دخلوا قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول، في حالة من الرضا العميق، وحتى في حالة من النوم، فيما يتعلق بالتهديد القادم من غزة بعد ما يقرب من عقد من الزمن دون حرب برية في القطاع.
واعتقد الجميع أنّ التهديد الذي تمثله الفصائل الفلسطينية في غزة يمكن السيطرة عليه، على الرغم من الانقسام الشديد في الداخل الإسرائيلي، والذي أثارته عودة بنيامين نتنياهو للحكم، ودفع عشرات الآلاف للتظاهر كل يوم سبت، وشركات التكنولوجيا والمستثمرين لمغادرة البلاد.
ووفر السياج الحدودي الذي كلف مليار دولار، ونظام القبة الحديدية الصاروخي والقوات الجوية والقدرات الاستخباراتية المخيفة لإسرائيل رادعاً قوياً، ونجح – باستثناء بعض الهجمات - في الحفاظ على سلامة المدنيين الإسرائيليين.
وبالتزامن مع هذا التوسع في القوة الصلبة، كانت هناك محاولات إسرائيلية لتحقيق الاستقرار في القطاع، بحسب الكاتب، وسُمح لعشرات الآلاف من العمال الغزيين بالعبور إلى إسرائيل كل أسبوع للعمل. كما سُمح للمياه وشاحنات الغذاء و"حقائب الأموال القطرية" وغيرها من الموارد بعبور الحدود، للتعويض عن استخدام حماس لأموالها الخاصة لبناء الأنفاق.
بل إنّ الرضا عن النفس الذي ساد إسرائيل، يضيف الكاتب، دفع السعوديين للتفكير في صفقة تطبيع، وكان الأمل السائد في العديد من الأوساط هو أنّ التوصل إلى تسوية سياسية في المنطقة قد يؤدي في يوم من الأيام إلى تحييد أي تهديد مستقبلي.
وفي الواقع، يقول الكاتب إنّ مصدرا أخبره بامتعاض "لو كانت إيران هي التي وجهت الهجمات، لكان الموساد على علم بها". قبل أسبوعين من فتح أبواب الجحيم – يقصد 7 أكتوبر/تشرين الأول - قال أحد طياري النخبة الإسرائيليين في مقابلة مع صحيفة جويش كرونيكل، إنّه سينفذ غارة ضد التهديدات الوجودية التي يشكلها حزب الله أو إيران، لكن القيام بمهمة فوق غزة ستجعله متردداً، مضيفاً "لا أعتقد أنه ستكون هناك حرب غداً".
وفي الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تحطمت هذه الأوهام. ولم يمض وقت طويل حتى عاد الطيارون إلى سماء غزة وأعادت البلاد اكتشاف تضامنها في ظل حكومة الوحدة الوطنية، لقد نُسيت احتجاجات الشوارع وكان ذلك اليوم نقطة محورية في تاريخ إسرائيل والمنطقة، وإلى حد ما، العالم بأسره.
كان لإسرائيل دائما نهج فريد تجاه حرية أسراها، كما تجسد ذلك عام 2011، بمبادلة 1027 أسيراً فلسطينياً مقابل الجندي المختطف جلعاد شاليط، بالنسبة للعالم الخارجي، قد يبدو ذلك محيراً، لكنّ القوات المسلحة الإسرائيلية مختلفة، فالجميع يعلم أنّ السماء والأرض سوف تتحركان لضمان عودة جندي واحد، سواء كان حياً أو ميتاً.
لكنّ حماس أصبحت ماهرة في تحويل إنسانية إسرائيل – المتمثلة في حرصها على جنودها ومواطنيها - ضد نفسها، بحسب الكاتب، وتأمل حماس أن يتم استخدام الرهائن أيضا لردع وتأخير وتعليق الانتقام الإسرائيلي في نهاية المطاف، مما يسمح للحركة بتكرار "المجزرة" كما قال أحد قادتها، غازي حمد، "طوفان الأقصى هو المرة الأولى فقط وسيكون هناك مرة ثانية وثالثة ورابعة لأننا نملك العزيمة والهمة والقدرة على القتال".
ويوضح الكاتب أنّ الاستفادة من إنسانية إسرائيل ضد نفسها لن تنجح هذه المرة، فقد أخطأت حماس في حساباتها بأنه لو تم تبادل 1027 أسيراً مقابل رهينة واحدة في الماضي، فإنّ 240 رهينة سيجلبون 246480 سجيناً فلسطينياً، وكان من الخطأ أيضاً افتراض أن الأعمال العدائية ستتوقف لفترة طويلة في هذه الأثناء، مما يسمح لها بالقتال في يومٍ آخر.
وما غاب عن حماس دائماً هو حقيقة أنّ إسرائيل ليست قوة استعمارية مثل فرنسا، والتي انتهى احتلالها للجزائر بالموت وبآلاف الجروح، فليس لدى الإسرائيليين دولة أخرى ينسحبون إليها، فالدولة اليهودية عازمةٌ على هزيمة العدو مهما كان الثمن.
أما على الجانب الإسرائيلي فقد تغير كل شيء في السابع من أكتوبر/تشرين الأول "فبذبح الأبرياء بمثل هذه الوحشية، واحتجاز العديد من الرهائن، بما في ذلك الأطفال الرضع والناجين من المحرقة" بحسب الكاتب، تكون حماس قد غيرت الحسابات الأمنية عن غير قصد، لقد تمزقت سياسة الاحتواء، والتي كانت لعقود من الزمن بمثابة الوتد الرئيسي في الموقف الدفاعي لإسرائيل.
فبالنسبة للعديد من الإسرائيليين، يعتبر وقف إطلاق النار لمدة أربعة أيام بمثابة ثمن باهظ يجب دفعه، وهم يدركون أنّ ذلك من شأنه أن يضع جنودهم في طريق الأذى، علاوة على ذلك، فإنّ تدفق الوقود والمساعدات الأخرى إلى القطاع سيتم حتماً مداهمته واستخدامه من قبل حماس، لتجديد مقاتليها وتعزيز شبكة أنفاقها، ومع ذلك فقد انتصرت رغبة إسرائيل بإنقاذ مدنييها.
"الأمر يشبه آثار الزلزال"
وإلى صحيفة هآرتس الإسرائيلية ومقال تحليلي للكاتبة شيرين فلاح صعب بعنوان "وقف إطلاق النار المؤقت لا يوفر سوى القليل من الراحة لسكان غزة الذين يواجهون واقعاً جديداً".
وتستهل الكاتبة مقالها بعبارة قالتها إسراء، معلمة اللغة الإنجليزية من غزة، في مقابلة مع صحيفة هآرتس: “لا تعود الحياة إلى طبيعتها خلال وقف إطلاق النار، فالآن فقط ندرك حجم الدمار”.
وتضيف إسراء التي تزوجت الصيف الماضي وانتقلت للعيش في بيت لاهيا شمالّي قطاع غزة “أتمنى ألا يكون هناك وقف لإطلاق النار” وتعكس كلماتها الإحباط والخسارة الفادحة التي عاشتها في اليوم الأول من الهدنة المؤقتة.
مثل العديد من سكان غزة، خرجت من مخبأها لتجد واقعاً جديداً من الدمار. وبحلول ساعات الصباح الباكر من يوم الجمعة، غادرت هي وزوجها دير البلح، حيث كانا يقيمان منذ بدء الحرب، واتجها شمالاً.
قالت إسراء "ذهبنا سيراً على الأقدام لمعرفة ما حدث لمنزلنا، لا أعرف لماذا قمنا بالمخاطرة. وكانت هناك جثث متناثرة على طول الطريق، وعندما مشينا شمالاً رأينا الخراب والدمار، ماذا بقي من مدينة غزة؟"
وعندما سئلت عن سبب قرارهم بالعودة إلى شماليّ القطاع، أجابت "أردت أن أرى ما تبقى من المنزل الذي حلمت أن أبدأ فيه حياتي الجديدة، كان كل شيء في حالة خراب، أخذنا بعض الأمتعة الشخصية والقليل من الملابس، لقد أبيدت أحياء بأكملها".
حاولت الاتصال بوالديها، بعد أن انقطع الاتصال بهم منذ ثلاثة أسابيع "أصروا على البقاء في الجزء الشمالي من قطاع غزة، لكننا غادرنا، سنقضي الآن الأيام القليلة المقبلة في زيارة المدارس التي تديرها الأمم المتحدة، في محاولة للعثور عليهم".
يقول أحمد، زوج إسراء، إنّ شوارع بيت لاهيا أصبحت مدمرة، الشارع الرئيسي في البلدة، الشيماء، تعرض لأضرارٍ كبيرة بسبب الدبابات الإسرائيلية التي احتشدت هناك، ويضيف "إن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية غير مفهومة".
وبدا العروسان، اللذان كانا يعيشان في أحد الأبراج السكنية الراقية في بيت لاهيا، منزعجين مما شاهداه عند عودتهما إلى شمال غزة "يبدو أن الأمر يشبه آثار الزلزال، لا شيء يبقى كما كان، ما هو ذنبنا؟" تسأل إسراء "مشكلة إسرائيل هي مع المقاومة حماس، لماذا إيذاء المدنيين؟ لقد دمرت حياتنا، وقد تحطمت عائلاتنا".
ويضيف أحمد "من المستحيل العيش هنا، إنها مثل مدينة الأشباح. سوف نعود للعيش في إحدى مدارس الأونروا". كما أن الناس لن يعودوا في أيّ وقتٍ قريبٍ إلى الجزء الشمالي من غزة بحسب أحمد.
إسراء وأحمد ليسا الوحيدين اللذين غمرتهما حالةٌ من عدم اليقين منذ بدء وقف إطلاق النار. إذ تشعر نجوى، وهي أم لطفلين من مدينة غزة، بمشاعر مماثلة، حيث غادرت إلى رفح في الجنوب في الأيام الأولى من الحرب لتقيم عند أقاربها.
"ما الذي يمكنك أن تأمل فعله في أربعة أيام؟" تقول نجوى، وتضيف أنها قلقة بشأن الأيام التي ستلي وقف إطلاق النار. "أطفالي سعداء لأنهم يستطيعون الخروج لبعض الوقت واللعب. ولكن ما هو نوع الروتين الذي يمكنني أن أمارسه هنا في رفح؟" وتقول "إنه ليس منزلي وقد توقفت حياتي ببساطة" كما أنّ مسألة الحصول على الغذاء والماء تثير قلقها.
وأضافت "في الأيام المقبلة سنبذل كل ما في وسعنا للحصول على بعض الوقود لضخ المياه والذهاب لشراء بعض الطعام والماء والملابس الشتوية. ليس لدينا أي شيء الآن وعلينا أن نؤمن كل هذه الأشياء وأن نكون مستعدين".
وأردفت "بالنسبة لسكان غزة، فإنّ وقف إطلاق النار لمدة أربعة أيام يعني البحث عن أقارب لمعرفة ما إذا كانوا أحياءً أم أموات؛ لا يتعلق الأمر بالحصول على الطعام والماء فقط. والأولوية الثانية هي دفن الموتى والتعزية".
وأضافت نجوى بأنّ المدارس التي تؤوي النازحين تستعد لاستئناف القتال، وقالت "تبحث الأمهات عن طعام يمكن حفظه دون تبريد، مثل البسكويت للأطفال والشاي والدقيق والزوفا". وأنهت حديثها بالقول "لم يسبق لي أن رأيت غزة في حالة خراب كهذه، قصص الموت والدمار في كل مكان وفي كل حي، أشك في أنّ وقف إطلاق النار المؤقت سيكون مفيداً".
"حان الوقت لتقديم مبادرة غير مسبوقة"
ونختم جولة الصحف بصحيفة القدس العربي ومقال كتبه الصحفي السعودي طارق الحميد بعنوان "غزة... أُصدّق الطفل".
يقول الحميد إنه فور إعلان هدنة أربعة الأيام في غزة انتشر على وسائل التواصل بالمنطقة فيديو لطفل غزاوي، مدته 27 ثانية، فاق انتشاره ربما جل التغطيات الخبرية يومها.
في الفيديو يقول الطفل بعفوية وابتسامة فرح تشع أملاً، وإن كانت تكسر الخاطر وخصوصاّ أن جل ضحايا هذه الحرب الغاشمة هم من الأطفال، وبلهجته العامية "الدنيا حلوة هيك... يا جماعة فش صوت طيارات... سامعين؟".
ويقول "صارت هدنة يا جماعة... والله من حد ما سمعت الهدنة فرحت كتير يا جماعة" ثم يضيف مكسوراً، رغم أنّ ابتسامته العفوية لم تفارق محيّاه "بس هذي الهدنة مؤقتة أربعة أيام بس".
ويختم قائلاً "يا رب في هاي الهدنة تنحل الأمور، وتصير هدنة أبدية"، مضيفاً، وهنا القصة التي تهز كل ذي ضمير: "والله الدنيا حلوة هيك بدون صوت زنانات... فرحت كتير يا جماعة... فرحت كتير".
أُصدّق حديث الطفل هذا أكثر من كل ما قيل ويقال من تجار الحروب والدمار؛ لأن هذا هو صوت الإنسان الطبيعي، فلا أحد يريد الحروب، وهي ليست الحل، وما يحدث بمنطقتنا، وبالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، من وجهة نظر الكاتب، ما هو إلا حروب عبثية وانتحار جماعي.
ويضيف الكاتب، والأهم الآن هو سماع أصوات أهل غزة الحقيقية، وليس تجار الحروب، أو مدمني الشعارات من "الهتّيفة" المؤدلجين بالمنطقة، والأهم هو سماع أصوات أصحاب الوجوه الحقيقية، وليس المنتقبين، أو المتطرفين الإسرائيليين.
وعليه، يوضح الكاتب، أنه يجب أن لا يكون الهدف الآن هدنة لأيام أو لسنوات، بل السعي للسلام وحل الدولتين وإنهاء هذا الصراع المدمر الدامي، وقطع الطريق على تجار الحروب والقضية، وعلى رأسهم إيران، وقطع الطريق على متطرفي إسرائيل، وعلى رأسهم نتنياهو.
ورغم كل المآسي، يقول الحميد إنّ قناعته هي أن المنطقة جاهزة للسلام، بل وطالبت وتطالب بذلك، قالتها الدول المعتدلة؛ السعودية ومصر والإمارات والأردن، وطالبت بها القمة العربية - الإسلامية بالرياض ببيانها الختامي، وبتوقيع إيرانيّ أيضاً.
وتحدث عن ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أيام، وكذلك الأوروبيون، وبعضهم يسعى الآن للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهذا مسار يجب ألا يتوقف، وبموازاته مسار الدفع لعملية السلام. فليست المنطقة وحدها المستعدة للسلام، بل حتى أهل غزة.
ولذا، يشير الكاتب إلى أنه لا يمكن أن يكون ثمن مقتل قرابة 15 ألفاً بغزة، وجلهم نساء وأطفال، مجرد هدنة لأيام، بل يجب أن تكون نقطة انطلاق للعملية السياسية من أجل الوصول لحل الدولتين وإعلان الدولة الفلسطينية العتيدة وعاصمتها القدس الشرقية.
حان الوقت الآن لتقديم مبادرة غير مسبوقة، وفق إطار زمني، للوصول لحل الدولتين، وتضطلع بها الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، والولايات المتحدة وأوروبا؛ مبادرة خاصة بتسريع عجلة السلام وفق المبادرة السعودية - العربية.