الصراع في ليبيا هو صراع على السلطة التي توصل إلى الثروة وبالتالي هناك قوى خارجية لا همّ لها إلا مفاتيح مؤسسة النفط والمصرف المركزي وأرقام حسابات مؤسسة الاستثمارات والأموال المجمدة.
تراهن واشنطن بقوة على تنظيم انتخابات تشريعية في ليبيا قبل نهاية يونيو القادم، وهو ما يعني بالنسبة إلى مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة المكلفة بالملف الليبي ستيفاني ويليامز احتراما لخارطة الطريق التي كانت وضعتها لملتقى الحوار السياسي في جولته الأولى المنعقدة بتونس في نوفمبر 2020، والتي وضعت أجلا لتنفيذها لا يتجاوز 18 شهرا، وينتهي في يونيو القادم.
من تونس إلى أنقرة، ومن القاهرة إلى موسكو، تتجوّل ويليامز للبحث عن دعم إقليمي ودولي لخطتها، وخلال الأيام القادمة ستتجه لعواصم أخرى أوروبية وعربية في ذات السياق، مع تعويل تام على إمكانية تحقيق التوافق الذي كان منقوصا قبل موعد الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، بما حال دون تنظيم الاستحقاق الرئاسي في موعده، وأدى إلى استقالة المبعوث الأممي يان كوبيتش.
داخليا، تثق ويليامز في أن الوضع الأمني تحت السيطرة، وأن الحرب لن تندلع من جديد في البلاد، ولاسيما بعد اللقاءين اللذين شهدتهما مدينة سرت بين رئيس أركان الجيش وقائده العام بالوكالة اللواء عبدالرازق الناظوري، ورئيس أركان وزارة الدفاع الفريق محمد الحداد واللذين أكدا أن إمكانية التوصل إلى حل نهائي على الصعيد الميداني متاحة، وأن المؤسسة العسكرية يمكن أن تتجه إلى التوحيد بأسرع وقت شريطة حل ملفي الميليشيات والمرتزقة، وهما ملفان سياسيان بدرجة أولى.
كذلك تسعى ويليامز لاستغلال نفوذها كدبلوماسية أميركية قبل أن تكون موظفة أممية في إيجاد جسور للتوافق بين مجلسي النواب والدولة، وبخاصة بين جناح عقيلة صالح في الأول، وجناح الإخوان، وهو ما تم التمهيد له في الرباط، وجرى التشاور حوله في طرابلس وبنغازي وطبرق، ومع الأطراف الإقليمية وخاصة تركيا ومصر والإمارات وقطر والجزائر، وذلك بغاية الوصول إلى تحديد جديد للاستحقاق التشريعي، ولكن وفق قاعدة دستورية متفق عليها وغير قابلة للطعن، على أن يتم لاحقا الإعداد للاستفتاء على الدستور، ثم إجراء الانتخابات الرئاسية.
عندما تركت ويليامز لكوبيتش مهمة إدارة الملف الليبي في فبراير 2021، وذلك بعد انتخابات السلطات التنفيذية الممثلة في المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، لم تتخل عن متابعة مجريات الأمور، ولا عن التواصل مع الفاعلين الأساسيين، وإنما كانت في قلب الحدث باستمرار، وكان لها تأثير سواء في الداخل الليبي أو في تحيين الموقف الأميركي، وبعودتها في ديسمبر الماضي انطلقت في تحديد ملامح المرحلة القادمة انطلاقا من جملة من المؤشرات:
أولا، أن أي حل للأزمة لن يتحقق إلا بتوافق الليبيين في ما بينهم، إذ أكدت الوقائع أن التوافقات الإقليمية والدولية غير كافية للتوصل إلى تجاوز مأزق السنوات العشر الماضية، ولاسيما في غياب الإرادة الحقيقية لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وإتمام توحيد مؤسسات الدولة والإفراج عن كافة السجناء والأسرى والمحتجزين لأسباب سياسية، وإعادة المهجّرين إلى ديارهم، والتعويض للمتضررين وحل الميليشيات، وجمع السلاح، وطي صفحة الماضي بكل ما فيها من آلام وأحزان وصراعات.
ثانيا، أن أي توافق داخلي ومهما كان إيجابيا في تحديد معالم المستقبل لن يُحقق أهدافه في غياب التوافق الإقليمي والدولي، فالأزمة الليبية تم تدويلها منذ العام 2011، وهي اليوم في قلب الصراع الجغرافي – السياسي بالمنطقة، وفي قلب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدول الكبرى، وإذا كانت هناك توجهات نحو حلحلة الوضع فالأمر مرتبط بالتوافقات بين واشنطن وموسكو، وبين أنقرة والدوحة من جهة والقاهرة وأبوظبي والرياض من جهة ثانية، وبين الفرقاء الأوروبيين في ما بينهم، بل إن إسرائيل ذاتها تم الدفع بها إلى ساحة المواجهة من قبل الأطراف الداخلية للنزاع التي ترغب في الاستفادة من التأثير اليهودي ولاسيما في القرارات الأميركية والأوروبية.
بهذه التداخل المثير، يبدو أن الأزمة الليبية لا يمكن أن تمضي إلى الحل إلا من خلال التوافق حول منطلقيها الداخلي والخارجي معا، وهو ما تعمل على تفعيله ويليامز باعتبارها الشخصية الأممية الأكثر فهما لطبيعة الأزمة منذ العام 2011 بل والأكثر قدرة على قراءة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، ولكن بآليات التحليل الأميركي التي يمكن أن تشخّص الداء ولكن دون أن تقدر على توفير العلاج المناسب.
يمكن للفرقاء الليبيين أن يجاروا المجتمع الدولي في كل ما يسعى إليه، وعندما يعتقد الجميع أن لحظة الخروج من النفق قد حلّت، سيوجد هناك في الزاوية المستحيلة من يعيد بسرعة قياسية خلط الأوراق ضمن منظومة الثقافة المحلية في النزوع نحو إعادة تشكيل الواقع. الأمر مرتبط بحالة عناد وتحدٍّ، وبرغبة كل طرف في أن يكون صاحب القرار النهائي، لذلك فليبيا لا تحكم إلا بسلطة مركزية غير قابلة للاختراق، ومن خلال مؤسسات موحدة تبسط نفوذ الدولة بقوة القانون.
تسعى ويليامز اليوم لأمرين مهمّين وهما الإبقاء على حكومة عبدالحميد الدبيبة إلى حين تنظيم الانتخابات وتنظيم الانتخابات قبل نهاية يونيو. وفي ذات الوقت تشتغل على سياقين آخرين وهما توطيد الاتفاق العسكري بإجراءات السعي نحو توحيد المؤسسة وتشكيل توافقات بين مجلسي النواب والدولة لتحديد معالم المرحلة القادمة وخاصة من حيث المسارين الانتخابي والدستوري، وفي مختلف هذه السياقات فإن المستشارة الأممية تعتمد على حلفاء الولايات المتحدة في تكريس رؤية واضحة لما تبقى قبل نهاية يونيو، وهي لا ترى مانعا في تقديم الكثير من التنازلات لبعض الفرقاء، ولكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات حقيقية من بينها:
أولا: أنها فشلت في منع إخضاع المسار السياسي عبر ملتقى الحوار للفساد ولسلطة المال، وهو ما تمت إثارته في تونس وجنيف، وتأكد من خلال التقارير المحايدة ولا تزال آثاره موجودة إلى اليوم.
ثانيا: أنها ستجد نفسها في مواجهة تناقض صارخ مع مبادرتها بفسح المجال أمام أنصار النظام السابق للمشاركة في العمل السياسي، وذلك في حال دخولها حركة المساومة من أجل إقصاء طرف دون آخر.
ثالثا: إن تجاهل ملف الميليشيات يعني الإبقاء على حالة الصراع الدائم وخاصة في غرب البلاد، بما يمثل تهديدا للمسار السياسي، ولو بعد الانتخابات التشريعية، فما حدث في صيف 2014 كان نتيجة انقلاب على نتائج صناديق الاقتراع.
رابعا: أن الصراع في ليبيا هو في الأصل صراع على الثروة، وبالتالي صراع على السلطة التي توصل إلى الثروة، وعلى السلاح الذي يضمن التأثير على السلطة لبسط النفوذ على الثروة، وبالتالي فإن هناك قوى خارجية ذات تأثير مهم فيه، وهي تلك التي لا همّ لها إلا مفاتيح مؤسسة النفط والمصرف المركزي وأرقام حسابات مؤسسة الاستثمارات والأموال المجمّدة، وطالما أن تلك القوى تحمي الفساد في الداخل الليبي وتتستّر عليه، فإن الحل السياسي سيبقى في حاجة إلى الكثير من الجهود.
هل ستنتظم انتخابات برلمانية في ليبيا قبل نهاية يونيو القادم؟ مبدئيا يبدو ذلك ممكنا، ولكنها لا تعني التوصل إلى نهاية الأزمة، لأن الحل الحقيقي مرتبط أساسا بتوحيد المؤسسة العسكرية والمصالحة أولا ثم كتابة الدستور التوافقي واستفتاء الشعب عليه والاتجاه نحو انتخابات رئاسية في ظل ضمانات بقبول نتائجها على خلفية قناعة جامعة بأن ليبيا لكل الليبيين وأن أي خلافات ومهما احتدت يمكن احتواؤها تحت خيمة الشرعية والديمقراطية.