خلال أشهر خلت كان عبدالحميد الدبيبة محور حراك كامل لتصنيع الزعيم الشعبي يشارك فيه متخصصون في الداخل والخارج، ويدار من قبل غرفة عمليات مركزية في تركيا بالتعاون مع مراكز للدراسات والعلاقات العامة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وكانت هناك عقود ضخمة قد أبرمت، وفرق قد تجندت لتلميع الصورة وتلوينها وتقديمها للشعب كعنوان للمرحلة القادمة.
كان هناك إصرار واضح على أن يحافظ الدبيبة وفريقه على قيادة البلد الثري لما لا يقل عن عشر سنوات أخرى، بل إن هناك من يتحدث عن سيطرة مطلقة على سلطة سيتم توارثها من قبل منطقة معينة وفئة محددة، وهو ما يعني أن المجيء بالمهندس عبدالحميد الدبيبة إلى رئاسة الحكومة لم يكن صدفة، وصرف ما لا يقل عن 20 مليون دولار لشراء الأصوات في ملتقى الحوار بتونس وجنيف لم يكن عبثا، وغض الطرف عن نتائج التحقيق الدولي حول الفساد في ملتقى الحوار لم يأت من فراغ، لقد كانت جميع الخطوات مدروسة، وعندما يتم التطرق إلى مسألة الثروة والمال تصبح كل الأبواب مهيّأة لأن تشرع نفسها بنفسها، فالمجتمع الدولي في الأخير ليس جمعية خيرية ليكون هدفه الصالح العام لهذا الطرف أو ذاك، وأصحاب القرار ليسوا ملائكة وإنما هم بشر ولهم مصالح ولديهم علاقات مع الشركات العابرة للقارات منها شركات النفط والغاز وغيرها، وكبار المسؤولين في الغرب ليسوا معصومين من الفساد، ولكنهم يمارسونه خارج بلدانهم، فيحصلون على الامتيازات المهمة وعلى الهدايا والصفقات، ودولة مثل ليبيا دولة ثرية، وهي حاليا محكومة من رجل أعمال ناجح أحاط نفسه بفريق من كبار الأثرياء والتجار والفاعلين الاقتصاديين وأباطرة الاعتمادات، وبينهم يبدو في الصورة محافظ المصرف المركزي، ما يدل على حقيقة المشهد وطبيعة المرحلة.
ومن يتابع مجريات الأحداث سيدرك أن المهندس الدبيبة كان ينفذ خطة تم إعدادها بدقة من قبل قوى إقليمية ودولية لتكريس زعامته السياسية، ومن بنودها مواقفه المعادية لقيادة الجيش، والمهمّشة لبرقة وفزّان، والباردة في التعامل مع المجلس الرئاسي، والمهادنة للميليشيات والمرتزقة، والعاملة على كسب التأييد الشعبي عبر دغدغة عواطف العامة بشعارات الاستفادة من الثروة الطائلة للبلاد، وهو ما كان يطمح إليه الليبيون خلال العقود الماضية، وعبر فتح أبواب الخزينة لملامسة حاجات المواطنين، ولاسيما الشباب والموظفين والمتقاعدين والأمهات وأرباب الأسر الفقيرة. لقد سمح المجتمع الدولي للدبيبة بأن يستفيد من مركزه السياسي ومن سلطته التنفيذية، وتم توجيه إشارات واضحة لمحافظ المصرف المركزي بأن يسايره في كل طلباته، فالمهم هو أن يتحقق النجاح في تقديم رئيس الحكومة كواجهة للمستقبل بملامح رجل الأعمال الليبرالي والديمقراطي المنفتح على العصر والعالم والمتخلّص من الشعارات الزائفة والمستعد للتفاهم مع الجميع من خلال دبلوماسية العقود والصفقات، على أن يكون النصيب الأكبر لأصحاب الدور الأكبر طبعا.
من الطبيعي أن تفرض نظرية المؤامرة نفسها، فالقوى الداعمة للدبيبة هي التي دعت الأمم المتحدة للتدخل من أجل تمرير التعديلات المقترحة من قبل المفوضية الوطنية العليا المستقلة للانتخابات على قانون انتخاب الرئيس الصادر عن مجلس النواب في التاسع من سبتمبر الماضي، وقد جاء بيان البعثة الأممية واضحا في دعوته إلى “إزالة القيود المفروضة على المشاركة في الانتخابات للسماح لليبيين الذين يشغلون مناصب عامة بفرصة تجميد مهامهم من وقت تقدمهم بطلبات الترشح للانتخابات الرئاسية، على النحو الذي اقترحته المفوضية الوطنية العليا للانتخابات”.
والأمر هنا يتعلق بالمادة 12 من قانون الانتخابات الرئاسية الذي أصدره مجلس النواب، والتي تنص على أنه “يُعدّ كل مواطن، سواء أكان مدنيًّا أم عسكريًّا، متوقفًا عن العمل وممارسة مهامّه (قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر)، وإذا لم يُنتخب فإنه يعود إلى سابق عمله وتُصرف له مستحقاته كافة”، وقد كان أول المستجيبين له المشير خليفة حفتر عندما قرر في الثاني والعشرين من سبتمبر الماضي التفرغ للترشح للرئاسيات من خلال التنازل مؤقتا عن منصب القائد العام للجيش لفائدة رئيس الأركان عبدالرازق الناظوري، ولأن المجتمع الدولي أصرّ على تنظيم الانتخابات في موعدها عكس ما كانت بعض الأطراف تعمل لتحقيقه من تحت الطاولة بغاية التسجيل، أُوحي إلى مفوضية الانتخاب بتعديل تلك المادة لتنص على أنه “يُعدّ كل مواطن، سواء أكان مدنيًّا أم عسكريًّا، متوقفًا عن العمل وممارسة مهامّه (عند إعلان المفوضية عن بدء العملية الانتخابية ولمدة ثلاثة أشهر)”، أي أنه يمكن أن يتوقف عن عمله يوم تقديمه لملف ترشحه على أن تستمر الأجهزة التي ستدار من قبل مساعديه في خدمة مشروعه وتلميع صورته بما يجعله المرشح الأبرز لنيل منصب رئيس الدولة.
ليبيا الآن أمام أمرين لا ثالث لهما، فإما تعديل القانون والسماح للدبيبة بالترشح للرئاسيات أو تأجيل الانتخابات بما يسمح له بالاستعداد لها، والتخلي عن منصبه قبل ثلاثة أشهر من الموعد الجديد. واللافت أن هناك توافقا من الأطراف الدولية المؤثرة كان وراء دفعها بالأمم المتحدة لتجرب حـظها في إسناد مفوضية الانتخابات مع مجلس النواب، وعندما تتحدث ألمانيا عن دعمها لهذا التوجه فهي تنطق بلسان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
الهدف إذا هو فسح المجال أمم الدبيبة ليترشح للرئاسيات وليفوز بمنصب رئيس ليبيا القادم، وبالتالي ليسحب البساط من تحت أقدام المشير حفتر وسيف الإسلام القذافي وفتحي باشاغا وكل الشخصيات الجدلية، وهو قادر على ذلك دون شك بعد العمل الجبار الذي قامت به آليات الترويج الإعلامي والاجتماعي باعتماد أحدث التقنيات من قبل أبرز المتخصصين في صناعة الصورة، ومن خلال الاستفادة من امتلاكه أذون الصرف لمبالغ ضخمة ذهبت إلى فئات اجتماعية عدة. كما أن الدبيبة اتجه منذ البداية إلى تحريك النزعات الجهوية والإقليمية والقبلية كون طرابلس الأكبر من حيث القاعدة الديموغرافية ومن حيث الخزان الانتخابي، وتكفيه أصوات مصراتة وطرابلس والزاوية والأمازيغ وبعض المناطق الأخرى لتصدر النتائج.
ومن الطبيعي أن يجد المجتمع الدولي نفسه في قفص الاتهام، فهو قد مارس كل أشكال الكذب والنفاق والخداع في ما يتعلق بالأزمة الليبية منذ اندلاعها في فبراير 2011، ولا يزال يسير على نفس النهج، وعندما تحدث الدبيبة قبل أيام عن أموال بلاده المجمدة في الخارج لم يجانب الصواب، وإنما يعلم جيدا أن المرحلة القادمة ستشهد حصول كل طرف على المكافأة التي يستحقها، ولعل من أبرز المؤشرات على النفاق الدولي والأممي ما راج عن وجود التزام يوقع عليه المرشحون لدى ملتقى الحوار السياسي لتولي أحد المناصب التنفيذية المهمة ويقضي بعدم الترشح للانتخابات التشريعية والبرلمانية، قبل أن يتبين أن الالتزام لم يشر إلى الانتخابات من قريب أو من بعيد، وإنما كانت هناك مسرحية استفاد كل من قام بدور فيها بنصيبه من التورتة.