احتفل في الدورة الثامنة والثلاثين من موسم أصيلة الثقافي بالشاعر والناقد المغربي محمد بنيس، وهو من بين أبرز الشعراء في العالم العربي، حيث تم استعراض ابرز محطات الشاعر الأدبية والمعرفية والانسانية.
إيلاف من أصيلة: خُصصت الدورة الثامنة والثلاثون من موسم أصيلة الثقافي للاحتفاء بالشاعر والناقد المغربي محمد بنيس في فعالية "خيمة الابداع" التي دأبت إدارة المهرجان عليها، كلّ عام، بتكريم أحد المبدعين البارزين باحتفالية كبيرة تواصلت حلقاتها طوال يوم الثلاثاء 19 يوليو الجاري، بمشاركة عدد كبير من النقاد والكتاب والشعراء العرب والأجانب الذين استعرضوا بكلماتهم أبرز محطات الشاعر محمد بنيس الأدبية والمعرفية والإنسانية.
وفتح هذا التكريم باب الحديث ليكون تأسيساً لتكريم المثقفين الرواد والفاعلين في حياتهم وبمشاركة من خارج حدود بلدانهم وبلدان العالم العربي.
ويعد الشاعر محمد بنيس المولود عام 1948 في مدينة فاس المغربية، من بين أبرز الشعراء في العالم العربي. وشهدت حياته الثقافية محطات اختلاف وتوافق بينه وبين شعراء مجايلين أو لاحقين داخل وخارج المغرب رسّخت اسمه بوضوح مغربياً وعربيا وعالمياً، وارتبط بأهم ثلاث محطات لما تزل راسخة في الذاكرة المغربية والعربية وهي تأسيسه مجلة الثقافة الجديدة عام 1974 التي منعت عام 1984، ومساهمته في تأسيس دار توبقال للنشر عام 1985، وبيت الشعر في المغرب عام 1996. وكان بنيس صاحب مقترح يوم الشعر العالمي الذي توجه به كنداء لمنظمة اليونسكو عام 1998 ووافقت عليه في العام التالي ولما يزل يحتفل شعراء العالم به كل يوم 21 مارس من كل عام.
أصدر حتى الان 15 كتاباً شعرياً كان آخرها "هذا الأزرق" عن دار توبقال عام 2015، إضافة الى عدد من الكتب النقدية والترجمات.
ونال جوائز شعرية عدة أبرزها جائزة المغرب الكبرى عام 1993 وجائزة الاطلس الكبرى للترجمة عام 2000 وجائزة كولبيتزاني لأدب البحر الابيض المتوسط في إيطاليا عام 2006، وجائزة فيرونا العالمية للآداب في إيطاليا عام 2007 وجائزة سطلن العويس في دبي عن أعماله الشعرية عام 2007 وجائزة ماكس جاكوب الفرنسية عام 2014. إضافة الى عدد من التكريمات أبرزها وسام من رتبة فارس وشحته به الجمهورية الفرنسية عام 2002.
اشتهرت ترجمته لقصيدة "لاعب نرد" للشاعر ستيفان مالارميه عام 2007 وبعدها ديوان الشاعر جورج باتاي عام 2010.
وكان الامين العام لمؤسسة منتدى أصيلة الوزير السابق محمد بنعيسى تحدث في كلمة افتتاحية عن أهمية هذا التكريم الذي يفسح المجال امام نخبة من الباحثين والنقاد للتأمل بعمق في المنجز الابداعي للمحتفى به واستحضار مساره الابداعي والوقوف عند محطاته المضيئة واستشراف الآفاق التي سيبلغها.جلسات ندوة الاحتفاء بالشاعر بنيس تواصلت منذ صباح يوم أمس الثلاثاء 19 يوليو حتى المساء بثلاث حلقات أشرف عليها ونسقها الشاعر مهدي أخريف.
وأضاف بنعيسى أنه يقدر في "الصديق محمد بنيس، شمائله الانسانية وروح الديمقراطية التي تسكنه. لقد اختلفنا فكرياً، وهذا حقه المطلق. كان صريحاً وجريئاً في انتقاداته غير مجامل ومن دون تحامل في مواقفه التي تفهمناها في حينها. ومن جانبنا، فبقدر ما كنا حريصين على تصحيح بعض مفاهيمه بالحوار الهادف وتبادل الاقناع، كنا مستفيدين بنفس الوقت من رؤاه وملاحظاته. وهذا التفاعل بيننا هو الذي أمدّ في عمر صداقتنا وجعلنا نميز باستمرار بين الشخص وقيمة عطاءاته".
وأضاف أن "بنيس وأمثاله هم طليعة رواد موسم أصيلة الغائبين الحاضرين، ماجعل صداقتنا مؤسسة على المودة والاعجاب والتقدير المتبادل. بتلك الروح تعاملت معه في مختلف مواقع المسؤولية التي اضطلعت بها. كل واحد منا ادرك حدود الآخر وخلفيات القناعات الموجهة لكلينا".
الشاعر محمد بنيس |
أهمية الترجمة
في اولى حلقات الندوة قرأت الناقدة والباحثة المغربية حورية الخمليشي كلمة الكاتب والأكاديمي والمترجم التركي محمد حقي صوتشين التي تحدث فيها عن مغامرته في ترجمة "كتاب الحب" للشاعر محمد بنيس من العربية للتركية الذي كان ترجمه، إضافة إلى كتاب "النبيذ" المترجم التركي متين فندقجي عام 2008 التي أعاد صوتشين ترجمتها للتركية لتكون مشتملة على كل الجوانب الابداعية التي ضاع بعضها بحكم العوائق البنيوية والتركيبية بين اللغتين.
وبين أن المترجم لا يولي اهتمامه، في المقام الأول، بإيجاد "تكافؤ" معجمي لمادة لغوية ودلالية بل يعمل قبل كل شيء على إعادة إبداع النص المصدر في إطار النظام الثفافي والاجتماعي السائد، الأمر الذي يجعله ينحرف عن النص الأصلي أحياناً عند الضرورة القصوى.
الكاتبة والناقدة المتخصصة في الشعر واستاذة اللغة والادب العربي في جامعة لويس الايطالية فرنشيسكا ماريا كوراو بوبيو تحدثت وآدابها في إيطاليا منذ قرون فقد كان دانتي ملماً بالثقافة العربية من خلال تراجم بن رشد والمدرسة الصقلية. وأشارت الى أهمية التراجم التي ظهرت عن بيت الحكمة في بغداد وقتئذ.
وقالت إن الاهتمام في هذا الوقت ينصب على الشعر العربي الحديث في إيطاليا بعد أن كان الاهتمام مركزا على الشعر القديم. وأشارت الى المقالات التي كتبها نبيس حول العلاقات بين بعض المفردات والاسماء مثل جبل طارق الذي يجب اجتيازه للوصول الى أوروبا وفهمها. وتحدثت عن الانفتاح الذي يعد ضرورياً خاصة في النصف قرن الأخير وقد كتب الشاعر محمد بنيس حول هذا الانفتاح، وبينت أهمية السفر في الشعر، حيث يبدأ السفر افتراضياً وخيالياً في الشباب ثم نكتشف معاني جديدة في السفر الوقعي.
وأشارت الى ضرورة التواصل بين ضفتي المتوسط لحفظ الابداع المتوسط العميق الذي هو أقوى من التعصب والتطرف، فالحضور العربي راسخ في ضفة المتوسط الاوروبي من خلال فن الخزف والالوان الراسخة حتى اليوم في الازرق والأصفر والأخضر.
جانب من الندوة |
بيان الكتابة
الناقد والباحث الجامعي المغربي عز الدين الشنتوف تحدث في دراسة طويلة حول عنصر الكتابة وسؤال تأريخية الكتابة كما يتصورها بنيس. واختار مقدمتين الاولى حول كون الكتابة نفياً لأي سلطة لآنها لا تنظر في تأريخية شعرية بنيس من حيث هو معطى. والثانية حين تغدو الكتابة ممارسة للنقد والتنظير فتكون فعلاً نقدياً.
وتطرق الى أهمية "بيان الكتابة" في وضع سؤال الكتابة داخل حركة التاريخ. وقال إن ما لم ينتبه اليه النقد المغربي والعربي في "بيان الكتابة" هو الانفتاح كأفق نصي تحتفل به القصيدة.
وتحدث عن ثلاث حركات في شعرية بنيس وهي تأطير الكتابة وماديتها وتأريخها.
وأن اللغة تتبنى ما يحدث أثناء الكتابة لا قبلها ولا بعدها.
الفنان فيليب عمروش من فرنسا عرض اشتغاله التشكيلي على مختارات من شعر بنيس في كتاب يدوي أنجز من 26 نسخة خاصة عرض نموذجا منها على الحاضرين. وقال إن في كل كتابة رسمة وفي كل رسمة كتابة. وتخوف من أن تبعدنا الحداثة عن الشعر ففي الشعر خيال جنوني.
الشاعر الأزرق
بعده قدم الروائي المغربي أحمد المديني شهادة بعنوان الشاعر الأزرق، تحدث فيها من زاوية الروائي الى زاوية الشاعر. وأشار المديني الى ضرورة الشهادة في هذا الزمن الني ننقرض فيه حيث يحق لنا الاستشهاد والشهادة.
وقال إن هذا اليوم ليس كسائر الأيام لأنه يوم النبوغ المغربي الذي دشّنه عبدالله كنون وواصله من بعده محمد بنيس.
وسرد قصة تعرفه بالشاعر حسن نجمي الذي كان شاباً يبحث عمن يأخذ بيده شعرياً فأرشده المديني الى بنيس الذي هاتفه طالبا منه أن يأخذ بيده ويرعى موهبته، "وهو ما كان فقد تعهده بصدق وإخلاص ولقّمه فن الشعر بأطراف البنان وعلمه الرماية كل يوم الى أن اشتد ساعده وكم علّمه نظم القوافي، وكم وكم، وعجز البيتين تعرفونه ياسادة عن معن بن أوس المزني".
واستطرد في الحديث عن بداية محمد بنيس الشعرية والمشاريع والمغامرات التي تميز بها من خلال المثابرة والتعلم الحديث من المصادر والاتجاهات كمشروه مجلة "الثقافة الجديد.
وقال مخاطبا بنيس: "كيف تستطيع أن تصبح شاعراً لا بالادعاء والعبارات الجوفاء، لنقل على سبيل المثال، فقط وأنت في مفترق أذواق وثقافات ومجازات، بين محمد الحلوي ومحمد السرغيني ومحمد الخمار الكنوني وأحمد المجاطي، خاصة هنا وشوقي وعبد الصبور قم أنسي الحاج وأدونيس هناك، وبين هذين الافقين تتحرك بين الأفلاك الكونية، واقعاً حتماً تحت ريادة بودلير وعلياء رامبو، ولعب لوتريامون مع صحبة ارستقراطية المجاز برفقة سان جون بيرس، وحتى آخر ماحدس به بونفوا، وبجوار هؤلاء جميعا، كيف يلهو بك الخيال بينم القيان والدنان، ونحن معا في الرعاية الحميمة لأبي الشعرية الألف ليلية شيخنا جمل الدين بن الشخ قدس الله روحه".
كتاب الحب
الحلقة الثانية شارك فيها الشاعر الاميركي بيير جوريس الذي قال عن كتاب بنيس "كتاب الحب" إنه وجد فيه ما يشبه الوصية المشتركة. وأشار الى أن هذا الاحتفال هو بشاعر كوني من خلال مؤلفاته ونصوصه. وأضاف أن شعر مالارميه كان يثير أسئلة متعددة وقد نجح بنيس في نقلها للعربية. وأسهب في الحديث عن مفهوم المكان لدى بنيس الذي كان يوليه أهمية واضحة. وبيّن أن في شعر بنيس حفاوة حتى في صوته وهو يلقي الشعر "وقد لمسنا ذلك في قراءات محمد بنيس في نيويورك". وختم أن العالم الناطق بالانكليزية بحاجة ماسة الى نصوص بنيس ليس الشعرية فقط بل حتى النقدية.
وتلته الكاتبة والناقدة حورية الخمليشي متحدثة عن ترجمات بنيس للعربية التي كانت أشبه بإعادة الكتابة للنص المترجم بالاسس الأصلية نفسها، وأسهبت في الحديث عن قصيدة مالارميه "لاعب نرد" التي ترجمها بنيس عن الفرنسية.
ثم تحدث المستعرب والمترجم الاسباني فريدريكو أربوس عن الصداقة التي تربطه ببنيس منذ مطلع الثمانينات "وكنا نفكر، وقتها، بترجمة الشعر العربي للاسبانية وكان شعر بنيس قد ترجم للاسبانية عام 1986 حين كان يترأس بيت الشعر في المغرب ومعهد ثربانتس في الدار البيضاء، وكان يتابع تطور الاداب الاسبانية رغم دعم اتقانه اللغة الاسبانية. وكان ينشر شعره المترجم في مجلة الأطلسي في التسعينات". وتحدث عن ترجمة "كتاب الحب" للاسبانية. وقال إن بنيس لم يقتصر على النشاط الشعري بل هو استاذ جامعي في مدينتين تطلان على الأطلسي، وهو ناقد أدبي ممتاز تابع تطور التيارات الأدبية في العالم العربي ولديه نحو 12 مؤلفا نقدياً إضافة إلى كتبه الشعرية.
من المشاركين في التكريم |
الانبثاق من الخراب
أما الروائي التونسي حسونة المصباحي فقد قدم قراءته الخاصة حول بنيس وتكريمه بعنوان "محمد بنيس منبثقاً من الخرائب" جاء فيها: "المرحلة التي بدأ فيها محمد بنيس يخطو فيها خطواته الأولى في عالم الشعر والأدب،كانت صعبة ومحفوفة بالمخاطر على مستويات مختلفة ومتعددة. فقد كان المغرب حديث العهد بالإستقلال.وكانت الأميّة منتشرة بشكل مريع.وكانت الحلقات الصغيرة للنخب المثقفة التي تقيم في المدن الكبيرة ،منغلقة على نفسها،ومنجذبة الى لغة المستعمر،بها تتكلم،وبها تكتب،وبها تقول الواقع.وأما اللغة العربيّة فقد كانت سجينة الأوساط المحافظة والرجعية.تلك الأوساط التي يستهويها آسترجاع وآجترار الماضي البعيد والعيش في سرابه وأوهامه.لذا كانت اللغة العربية مفصولة عن الحياة، وعن واقع كان في طور التجدد والتغيّر.وكانت لغة الجمود واليبس،ولغة عصا الشيوخ المتزمتين التي كانت ترقص فوق رؤوس طلبة "جامع القرويين" وهم يحفظون ما تيسّر من القرآن.
لذا يمكن القول إن محمد بنيس انبثق من الخرائب! خرائب عالم كان ينهار بسرعة وعنف.عالم قديم خربت بناه وتفتتت فما عاد قادرا على ضمان وجوده، وخرائب لغة تكلست وتعطلت قدراتها فباتت عاجزة عن المسك بالواقع الجديد الذي كان يولد بعسر وبطء.
وخرائب مدينة فاس المثقلة بجراح التاريخ، والحاملة تراثا فقهيا ودينيا أثر في حياة أهلها،وفي تفكيرهم،وفي عاداتهم ،وتقاليدهم على مدى قرون مديدة،جاذبا إياهم الى الوراء دائما ليعيشوا الماضي ،لا الحاضر ولا المستقبل .
كما آنبثق محمد بنيس من يتم مبكر.فقد غيّب الموت أمه وهو لا يزال صبيّا ينظر الى العالم من حوله بدهشة وذهول. لذلك سيعيش في ما بعد حياته باحثا في الكلمات والألفاظ والصور الشعرية عما يمكن أن يساعده على التخلص من الخراب ومرارة اليتم،ويحرّره من تراث موسوم بالجمود والسكون واليبس الروحي والقحط الفكري.
ولعله آكتشف في فترة البحث والحيرة أن الشعر هو المنقذ.وهو الملاذ.وهو الوسيلة الناجعة لمواجهة مصيره.والشعر هنا لا يعني القوافي والأوزان ،وإنما يعني تلك الموسيقى الخافتة الشجية التي تعيد للروح توازنها،وتلك الرؤية الفلسفية التي تساعد الفكر على التحرر من قيود الماضي، وعلى التسلح بأدوات نقدية حديثة لمواجهة الواقع ،وتهب الشاعر القدرة على الصمود والثبات أمام الفواجع والنكبات وتقلبات التاريخ.لذلك قرّر أن ينذر حياته للشعر في معناه الواسع والعميق ،ويصرف جهوده له فلا يتخلى عنه، ولا يخونه أبدا".
وأضاف أن بنيس أدرك منذ البداية أن "هناك أفقين معرفيين يمكن أن يساعداه على المضيّ قدما في مشروعه، الأفق الأول هو المشرق العربي الذي كان في الستينات من القرن الماضي،غنيّا بالأفكار والأطروحات التقدميّة والطلائعية المتطلعة للتجديد والإبتكار والخلق ،والساعية الى القطع مع ماض ثقيل، ومع تراث يبدو شبيها بقبر معتم.وكانت مجلة"شعر" تجسّد تلك التطلعات أكثر من غيرها من المجلات العربية الأخرى .ويعود الفضل في ظهور هذه المجلة التي صدر أول عدد منها في شتاء 1957 إلى يوسف الخال الذي أمضى سنوات طويلة في الولايات المتحدة الأميركية ،وعاد إلى بيروت مسلحا بمعرفة واسعة وعميقة بالشعر الأنغلو-سكسوني متمثلا في كل من والت ويتمن، وإزرا بواند،وتي.آس .اليوت،وأودن ،وروبرت فروست،ووليام بتلر ييتس،ووويليم كارلوس وليامز وغيرهم.وكان همّه الأساسيّ تفجير "ثورة شعريّة" تقطع مع السائد،وتمنح الشعر العربي القدرة على التخلص من الموروث القديم،ومن قيوده، وصوره الباهتة ،ورتابته،وجموده لينفتح على التجارب الشعريّة الكبرى العالميّة، الغربيّة تحديدا.وقد آستجاب لطموح يوسف الخال شبان من أقطار عربيّة مختلفة.فكان هناك سوريون،ولبنانيّون،وعراقيّون،ومصريّون ،وغيرهم. أما مساهمة شعراء بلدان المغرب العربي في تلك التجربة الفريدة من نوعها،فقد كانت شبه منعدمة.لكن لا بد من الإقرار أن عددا قليلا من الشعراء والكتاب الطلائعيين في البلدان المذكورة كانوا يتابعون مجلة "شعر" بكثير من الإهتمام والفضول،وكانوا يدمنون على قراءة كل عدد من أعدادها سعيا منهم الى أن يكونوا ذات يوم من الفاعلين في تجربتها، ومن المشاركين في مشروعها التجديدي والتحديثي.وكان محمد بنيس أحد هؤلاء.وفي فترة هذا" الإنفتاح الذي لا يخشى ،وهذه المغامرة غير المتعجلة"كما سيقول في ما بعد،تعرّف محمد بنيس على أدونيس من خلال "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل"،ثم من خلال "أغاني مهيار الدمشقي".
وختم "هو تعلم كيف يطرح السؤال عن الإنتقال من زمنه الى زمنه،وكيف يبقى مخلصا لما تعلم منهم ،رغم أن كلّ ما يحيط بنا في العالم العربي يقدّم الهبات أو الخيبات حتى تندم على ما تعلمت وما كنت تعلمت".
الصدمة الشعرية
وتلاه الناقد الحبيب شوفي بمداخلة بعنوان الصدمة الشعرية قال فيها إن المثقفين المغاربة وجدوا أنفسهم أمام مرحلة التأسيس منذ الستينات. وكانت للغة الميراث الثقافي في شعر بنيس الذي كان شابا في فاس حيث شكلت القصيدة لديه سفرا شعريا، وكانت القصدية لديه بمثابة حياة في قصيدة والحيوات الأخرى مجرد عبور نحو القصيدة. وقال إن في شعر بنيس مقاومة جعلته يعرف أنه سيبقى وحيداً وسيبقى هناك في منطقة الوفاء. لايخشى المغامرة لانه يؤمن بالنتائج. وهو عاشق للغة العربية ومكنه هذا العشق من اجتراح تراكيب جديدة في لغته الشعرية. وقد كان لديه وعي بدبيب الكلمات، يمكن العثور على كلماته في مضائق الشعر. وأشار الى فهم بنيس وعلاقاته بالايات القرآنية وعلامات الترقيم والبياض وتوظيفها في القصيدة. وفي كل ركن من قصيدة بنيس ثمة معرفة شعرية.
فنانان من المغرب يقدمان غزفا وغناءً شعريا |
المشروع الثقافي
في الحلقة الأخيرة المسائية قرأ الشاعر الياباني بانيا ناتسويشي، استاذ الادب الفرنسي في جامعة طوكيو ومؤسس ورئيس "جمعية الهايكو العالمية" مقاطع من الهايكو باللغتين الفرنسية واليابانية خصص بعضها عن علاقته ببنيس وشعره.
ثم تلاه الشاعر البحريني قاسم حداد الذي تحدث عن الصداقة الشخصية مع محمد بنيس وعن مشاريعه الثقافية من خلال قراءة بعنوان "محمد بنيس في التجربة" جاء فيها: من المحتمل أن تكون المشاريع الثقافية الناجحة هي التي تأتي بمبادرات شخصية. تلك الشخصية الأدبية التي غالبا ما تكون هي موقع القلب من رؤية سياق إبداعي معين".
وأضاف "سوف يجري الحديث كثيراُ عن تجربة محمد بنيس الشعرية، وهي على أهميتها في سؤال الشعر العربي المعاصر، يبقى لتجربة الفعل الثقافي الذي حققه الشاعر، أهمية تستكمل قصيدته، وربما ضاهتها أحياناً".
وقال إن للصداقة دورا فعّالا في تأسيس المشروع الثقافي الجديد وتكريسه، ومن ثم العمل على بلورته بالنهج الجماعي المنسجم.
"وفي تقديري أن الصداقات المتنوعة، بعيدة المدى، التي تمكّن بنيس من تحقيقها في محركات العمل الثقافي والادبي، عربيا وعالميا أتاحت له وضع مشروعه في مهب أكثر التطلعات حيوية".
وتساءل حداد "الى أي حدّ تمكنت تجربة محمد بنيس والذي اجتهد في المشاركة مع أكثر المناقشات العالمية حداثة، من جعل موضوعات تلك النقاشات جزءاً من السجال الثقافي في الافق العربي؟
ففي هذا اسهام شبه مباشر في تقويض بنية الانسجام حدّ التكرار والتشابه، الذي يعاني منهما الصنيع الادبي في مشهدنا العربي".
وختم "لان بنيس لم يصنع كلّ ذلك بمفرده، فإن الدرس لا يخصّ السابقين وحدهم، وأحب التأكيد على أن مسؤوليتنا الحضارية لا تنزع الى تناول الدرس وقتل الاستاذ، وذلك صيانة لمصادر تجربة الثقافة العربية ومعطياتها وآفاقها".
أعالي اللغة
ثم تليت مشاركة الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس الذي اعتذر عن عدم الحضور بسبب زفاف ابنته في برلين. وجاء في مشاركته المعنونة بـ "أعالي اللغة": إن كان في ألمانيا من تجديد في الاهتمام بالشعر العربي المعاصر، بعد مرحلة طويلة من تجاهله، فهو يعود قبل كل شيء لهذا الثلاثي محمود درويش وأودنيس ومحمد بنيس، ويحتل الاخير مكانة خاصة به. كلمات شعره، التي تتراوح بين تجريدية عالية وأوصاف حسّية، هي بحث عن الصمت، عن الفراغ، عن الارض المجهولة، حيث يسكن ما لم يُنطق به بعد. وهو يقوم بهذا البحث الصارم للمحافظة على حيوية اللغة، لحمايتها وإعادتها إلينا".
وتمنى على الشعراء الألمان الشبان الذين يقومون بتسجيل وقائع الحياة اليومية الذين يرفعون من شأن الوقاحة والسخرية ويمارسون اللعب بالكلمات من اجل اللعب بالكلمات يمكنهم أن يتعلموا الكثير من شعر محمد بنيس، أي أن على الشعر ألا يتردد في مواجهة أعالي اللغة، أن يركب صوراً تتجاور فيها الميتافيزيقيا مع البحث عن الشطح الذي يولد بالضبط من الصمت ومن التأمل".
وقال إنه يرى "تقارباُ لدى محمد بنيس مع الرومانسيين الألمان مثل نوفاليس وهلدرين، وأيضاً مع هيدجر وكتابته عن الشعر، التي هي شعر في الوقت ذاته".
الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن قدم قراءته لديوان محمد بنيس الأخير "هذا الأزرق" قال في بعضها إن ملحمة الازرق التي لم تكن مصادفة أن يكتبها بنيس هي حفر في جوانية اللغة، وقد كان الازرق رفيقه في كل ماحوله في لباس العمال وفي الزلّيج وفي الماء والبحر والسماء ولاحدود بين الأزرق والازرق، كما يقول بنيس".
"لم يكن هذا اللون غريباً عليه لكنه لا يعرف كيف جاءه. ولكم أوغل القارئ في سبر الازرق في الديوان وجد أنه ليس لوناً فقط بل مقاربة شعرية ووجودية"
ورأى وازن أن ديوان "هذا الأزرق" احتفى باللون الازرق بما لم يكتب قبله، وكان سبّاقا في خلق هذا الفضاء الشعري".
بحث صبور
آخر الكلمات كانت مشاركة من الشاعر والمترجم والناقد الفرنسي برنار نويل قرأت نيابة عنه لعدم تمكنه من الحضور تحدث فيها عن رؤيته لشعر بنيس وأنه لا يجامل قارئه وانما يضاعف على الدوام السرعة التي تضمن اختراق المظاهر عبر تحويل الرؤيا الى رؤية. ففي طريقة تكسيره للمرئي، وبالتالي نقل هذا المرئي، نوع من الخميرة الاسطورية التي تجعل من محمد بنيس شاعراً يجرد الصور: إنه يعتصرها بعنف بدل أن يعرضها بغاية الفتنة. من هنا تأتي الصرامة التي ترفض أي تنازل للغنائية المغرية كما الاستطرادات التزيينية الشائعة في الشعر بكثرة".
وختم أن محمد بنيس "أنجز عملا لا يدين به الا للبحث الصبور عن أصالته الخاصة ليصبح نموذجا داخل اللغة العربية. وقد أصبح الان يحمل مستقبلا يجعل منه عملاً تأسيسياً".
في ختام حلقات الندوة شكر محمد بنيس كل ادارة منتدى أصيلة وكل من شارك في حفل الاحتفاء به وبمنجزه وقال لقد كانت لحظة في يوم أو يوم في لحظة. وقد تداخلت منذ الصباح الرؤى وتمازجت.
وبين أن ندوة اليوم صورة لما يخص به موسم أصيلة الثقافة الدولية في المغرب. وقال إن "الكلمات التي القيت في الجلسات جعلتني أحس أن بجوانب كانت محجوبة عني في كتبي وأعمالي وذلك شأن الجانب الشعري".
وأشار الى أن عالمنا عالم المال مضاد للشعر لأن الشعر لا يخضع لمنطق المنفعة والاستهلاك. لكن الشعراء واعون أن الشعر هو مقاومتهم الزمنية، لذلك يحتاج الشعر لحفظه من المقاومة والانزواء.
وختم أن تكريمه "هو تكريم للشعر. وأن هذا اليوم جمع، لآول مرة، على أرض المغرب كتاباً وشعراء وفنانين من أجل الشعر".
ثم قرأ شعراء من دول اليابان وفرنسا وأميركا وايطاليا واسبانيا قصائد من شعر بنيس مترجمة.
ثم قدم فنانان من المغرب عزفا وغناء شعرياً.
وقرأ محمد بنيس قصائد مختارة من عدد من أعماله الشعرية.
يذكر أن موسم أصيلة الثقافي 38 يتواصل منذ 15 من شهر يوليو الجاري حتى الثامن والعشرين منه ويشارك في فعاليات المتنوعة عدد من المفكرين والأدباء والخبراء العرب والاجانب.