: آخر تحديث

مأزق السياسة القطرية في الشرق الأوسط

4
4
2

المقاربات السياسية القطرية منذ استلام الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم بانقلاب أبيض على أبيه، قامت على السعي لتحقيق اختراق دبلوماسي لمؤسسات ودوائر القرار في الولايات المتحدة، مستغلة العلاقة مع إسرائيل ككيان يقع في فلك مصالح الولايات المتحدة الثابتة.

اختراق استطاعت بواسطته السياسة القطرية الجمع بين العلاقة مع تل أبيب واتصالات ونفوذ داخل تنظيمات تمتلك عداوة أيديولوجية مع واشنطن، وكانت الدوحة قناة التواصل والتفاوض التي تستعين بها واشنطن لفتح أبواب مغلقة والوصول إلى تفاهمات تحقق مآربها ومصالحها الاستراتيجية.

الدور الوظيفي للدوحة حقق المطلوب منه على مدى العقود الماضية. ففي اعتراف لبيان جزئية هذا الدور من عرابه الأساسي، الشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء القطري السابق، أكد أن قطر كانت تلبي احتياجات واشنطن في تنفيذ مخططاتها واستراتيجياتها في المنطقة. ولعل أبرز مثال على ذلك حديثه عن الدور القطري في التواصل مع أطراف دولية لتأمين قرار أممي داعم لشن حرب أميركية من أجل إسقاط حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، قبل أن تعدل إدارة جورج بوش الابن عن ذلك، وتذهب نحو احتلال العراق بأكمله. الاعتراف مذاع في برنامج "الصندوق الأسود" المنتج من قبل قناة جريدة "القبس" الكويتية.

اعتراف الشيخ حمد بن جاسم ربط ما حدث بتغطية قناة الجزيرة إبان الحرب على العراق، التي هاجمها وزير الإعلام العراقي الأسبق محمد سعيد الصحاف، واتهمها بالترويج للاحتلال عبر نشر أخبار حاول بيان عدم صحتها ودقتها بجولات ميدانية آنذاك.

الشاهد مما سبق أنَّ الدور القطري في المنطقة بحاجة إلى دراسة معمقة وبحث في العديد من المحطات التي عصفت بها، ابتداءً من الحرب على العراق، والحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2006، وانقلاب حماس في قطاع غزة، مروراً بثورات ما سُمي الربيع العربي، وحروب حماس وإسرائيل، وانتهاءً بصراع إيران وأذرعها مع إسرائيل وارتداداته المستمرة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قبل عام ونيف إلى الآن.

وتقف قطر حالياً عاجزة لضيق هامش المناورة أمام عقبات سياسية تتطلب من دبلوماسيتها نوعاً من إعادة التموضع نظراً لمقتضيات الواقع الذي ارتسم بحدود النار والركام.

عقبات ناتجة عن ثلاثة تداعيات للصراع: التداعي الأول، انحسار مكانة ونفوذ أدوات المحور الإيراني، كحزب الله في لبنان وحركة حماس في قطاع غزة، فضلاً عن خسارة رأس المحور، إيران، كحليف متوازن تتقاطع رؤيته في المنطقة مع مساعي قطر في استمرار تسويق دور دبلوماسيتها كوسيط بين نظام طهران وبين الإدارات الأميركية المتعاقبة.

التداعي الثاني، استمرار اليمين الإسرائيلي المتطرف في تهميش الدور القطري لصالح تحقيق رؤيته، والتماهي مع الدور المصري الحاضر بقوة بسبب التداخلات الجيوسياسية التي تحكم علاقة القاهرة بقطاع غزة، خاصة في الفترة القادمة التي اتفقت جميع الأطراف على إنهاء أي دور لحركة حماس خلالها في مستقبل القطاع. حيث يوعز اليمين الإسرائيلي بفشل استراتيجيته في احتواء حماس إلى بعض السياسات القطرية التي سمحت لفكر قادة حماس باتخاذ قرار القيام بما جرى يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وكانت الدوحة قد ضغطت على حكومة بنيامين نتنياهو للسماح للعمال الفلسطينيين من قطاع غزة بالعمل داخل إسرائيل، كنوع من استمرار التفاهمات بين الحركة وإسرائيل، ليُكشف عن دورهم - أي العمال - في نقل معلومات عن مواقع المستوطنات المحاذية لقطاع غزة، حيث سهلت اقتحامها كما بات معروفاً.

التداعي الثالث، فرض المملكة العربية السعودية رؤاها لتحقيق مصالح دول المنطقة من خلال ربط تطبيع العلاقة مع إسرائيل بالمسار السياسي والاقتصادي والأمني، وانعكاس ذلك على تحقيق الاستقرار في بعض عواصم النفوذ الإيراني سابقاً، وتحديداً دمشق وبيروت الطامحتين إلى عودة العلاقات مع الرياض كخيار استراتيجي لا بديل عنه. فاليوم نرى أحمد الشرع يتوجه في محطته الأولى كرئيس لسوريا إلى الرياض، في دلالة سياسية هامة حول طبيعة العلاقة الجديدة بين سوريا والمملكة.

 

إقرأ أيضاً: كُمُون الإخوان أمام عودة ضجيج سياسات ترامب

زيارة الشرع جاءت بعد الدور السعودي الضاغط لانتخاب الرئيس جوزيف عون في لبنان، بالتزامن مع قيادة الرياض تحالفاً دولياً لتنفيذ حل الدولتين الساعي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وأثر ذلك على العلاقة مع الولايات المتحدة المحكومة اليوم من إدارة دونالد ترامب، التي تعي أهمية العلاقة التحالفية مع الرياض ذات الخطط الاقتصادية الطموحة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يحتاجه الرئيس ترامب لإسناد مواقفه الدولية وتقويتها.

هذه العقبات جعلت الدوحة تتحرك سريعاً في الملف السوري عبر زيارة قام بها أميرها ومسؤولون قطريون في محاولة لإضفاء ثقل سياسي واقتصادي يتناغم مع النفوذ التركي. وعمدت أيضاً إلى شن حملة إعلامية ضد السلطة الفلسطينية، هادفة بذلك إلى خلق توازن على الساحة السياسية الفلسطينية لإنقاذ شعبية ومكانة حركة حماس المتهالكة، ومدّها بنوع من الأكسجين السياسي لتقف بندية أمام عناد السلطة الفلسطينية التي حددت خياراتها بضرورة قطع الطريق أمام حماس للبقاء بأي صيغة لحكم قطاع غزة.

ارتدادات الصراع في المنطقة، وقوة الطرح الدبلوماسي السعودي، وعودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبقاء اليمين الإسرائيلي حاكماً لتل أبيب في المرحلة المقبلة بالحد الأدنى، واحتمال تجدد الصراع بطابعه العسكري؛ كلها عوامل تؤكد على تهميش محتمل للدبلوماسية القطرية ومساقاتها في المنطقة.

إقرأ أيضاً: الإخوان بين انتهاء نموذج حماس وولادة تجربة الجولاني

لذلك ستسعى الدوحة في المرحلة الراهنة والقادمة أيضاً إلى خلط الأوراق بناءً على مساع تحقق لها دوراً أكبر يبقيها سياسياً في فلك واشنطن دونالد ترامب، ويحميها من قراراته الارتجالية غير المتوقعة.

خلط الأوراق القطري سيعتمد سياسياً وإعلامياً على ما تبرع في تنفيذه خلايا جماعة الإخوان المسلمين المنتشرة في المنطقة، ببث كمية هائلة من الإشاعات مستهدفة مثلث العلاقات السعودية – الأميركية، السعودية – الإماراتية، والسعودية – المصرية، في تكرار لمناهج إخوانية بالية لتعطيل مسار الاستقرار والنهوض في المنطقة وتحريفه بحواش سياسية جانبية.

كما سيكون هناك مسعى بدأ يطفو على السطح للعب على التناقضات اللبنانية الداخلية والتأثير على مسار تشكيل حكومة القاضي نواف سلام بتوفير مقومات تقوي مكانة حزب الله كما جرى سابقاً. والمتوقع اشتداد الحملة المستهدفة للسلطة الفلسطينية في محاولة حثيثة من الدوحة لإدامة حماس سياسياً على الساحة الفلسطينية، من خلال محاولة استنزاف رصيد السلطة الشعبي.

إقرأ أيضاً: حزم السلطة الفلسطينية أمام تحركات عبثية إيرانية

ويدرك الساسة القطريون أنَّ مقارباتهم السياسية بحاجة إلى إعادة قراءة تمهيداً لتموضع ينتج إطاراً منهجياً بقالب متجدد يتجاوز حالة الإفلاس السياسي، التي أصبحت مقترنة بطروحات قائمة على خارطة تحالفاتها المعتمدة على جماعات وميليشيات أضحت بحكم الصراع خارج دائرتها التي ما زالت مفتوحة الاحتمالات نحو المزيد من التصعيد غير المنضبط.

وهو ما يضع الدوحة أمام حقيقة ساطعة؛ أن إدارة دونالد ترامب ستتجاوز دورها المتوارث من إدارات أميركية سابقة، كنهج يراه ترامب عبثاً دبلوماسياً لم يخدم مصالح واشنطن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف