كنت في العاشرة من عمري عندما تدهورت أحوالنا مع وقوع خلاف بين أبي وجدي، بسبب رغبة الأول في بيع منزل العائلة، وكان قد مضى حوالى عقد من السنين على قيام حركة الضباط الأحرار في مصر، وخلع الملك. وضد رغبة جدي، ولضيق الأحوال، باع أبي المنزل الكبير، ومرض جدي وتقاعد حزنًا، وتولى أبي مهامه عنه. وفي مطلع الستينيات توفي جدي، وفي حوارات مجلس العزاء عرفت تفاصيل الخلاف. كان جدي محبًا للملك ومطلعًا على الأحوال العامة، وقد توقع مبكرًا آثار ما اتخذه أولئك الضباط الشباب من قرارات غير مدروسة (حسب رأيه) لعدم خبرتهم وانتماءات معظمهم الأيديولوجية. وقد عصفت أولى قراراتهم بمستوى معيشتنا مباشرة، إذ كنا نقيم في بيت كبير في قلب المدينة ويتألف من طابقين، به كهرباء وصنابير مياه. ولم يسقط من ذاكرتي حتى اليوم أنَّه كانت لدينا آنذاك كسارة للبندق، ثم انحدر بنا الحال إلى السكن في منزل ريفي متواضع في ما تبقى من إقطاعية لأحد الأعيان التي كان جدي يدير شؤونها. كانت الإقطاعية شاسعة، لكن بعد أول قرارات الثورة في إطار ما كان يسمى بالإصلاح الزراعي، ضمرت إلى بضع عشرات من الأفدنة، نصفها بور والباقي وضع عليه اليد مستأجرون يدفعون (أو لا يدفعون) مبلغًا زهيدًا من الجنيهات سنويًا. وتفتتت الملكيات الكبيرة وتدهورت إنتاجيات المحاصيل الرئيسة وعلى رأسها القطن، وتبدلت الأحوال إلى النقيض، وتآكلت العائلات الثرية التي كانت تقيم في أملاكها وهجرتها.
شببتُ مشبعًا بإعلام أحمد سعيد ومحمد عروق من إذاعة "صوت العرب" وإعلام محمد حسنين هيكل من صحيفة "الأهرام". وجاءت الهزيمة الكبرى وكنت في أوج سنوات مراهقتي، ولم أكن أدري أنهم طبعوا على ذاكرتي الخام هالات قداسة مزيفة لشخوص بعضها لم أستطع التخلص من تأثيره الكاريزمي حتى اليوم. فقد أحببت جمال عبد الناصر رغم يقيني أنه ومن جاء بعده من تابعيه وتابعي تابعيه أول المسؤولين عن الهزيمة، وعن تدمير التعليم، وعن تدمير الزراعة وإفساد القضاء، وكثير مما اكتشفته بعد أن تجاوزت مرحلة العواطف إلى مرحلة النضج الفكري والوعي بما جرى من منظور موضوعي.
إقرأ أيضاً: السودان... مأساة "الزول" الحائر
إنَّ صناعة الهالات هي صناعة قديمة متوارثة في مجتمعاتنا، فالبشر لديهم عقول مفتوحة على مصاريعها، وظيفتها التلقي على مدار الساعة. نقول مفتوحة وليست متفتحة، إذ لا فلترة ولا تدقيق ولا نقد ولا تمحيص، فقط تخزين المنتج الذي تتلقاه، ذلك الذي يملأ كل الفراغات. وعندما يستجد جديد فلا مكان له، ويظل الموروث المقدس خطًا أحمر قانيًا دونه رقاب ودم. مع أنَّ هؤلاء الذين صنعنا لهم هذه الهالات بشر، والإنسان خطّاء بالفطرة. وعلى العكس من الذين صنعنا لهم هالات العصمة والقداسة البيضاء، هناك من صنعنا لهم هالات سوداء أحطنا بها رؤوسهم، ولم نكلف أنفسنا عناء البحث عن الحقيقة. فعلى سبيل المثال، تجرعنا في طفولتنا فساد ملك مصر بما يكفي للاعتقاد بأن كل ملوك الأرض كانوا فاسدين، مع أن الرجل غادر ملكه بمنتهى الأدب السياسي في مشهد يستحق عليه الثناء. ورموز أخرى دينية وسياسية وعسكرية وسعنا هالاتهم البيضاء أو السوداء، وسيجنا حولهم وكتبنا "ممنوع الاقتراب أو التصوير أو البحث أو التحري في سيرتهم ومسارهم"، ليس حبًا أو كرهًا فيهم، ولكن حتى لا نكتشف مدى كذب الخدعة التي صنعناها بأنفسنا وصدقناها.
إقرأ أيضاً: الكراهية النائمة والسلام الهش
وما أن يتجرأ أحدهم بلمس هذه التابوهات حتى يثور عليه صناع الهالات الخشبية المزيفة دفاعًا عن وهم مترسخ في الأذهان. يخشون لو زال هذا الوهم، فربما تنهض العقول المأسورة وتكتشف حقيقة مرة، وهي قرون من الكذب المؤدلج. حينئذ ستكون العواقب وخيمة. الذين صنعوا من هتلر زعيمًا وكللوا رأسه بهالة تقديس غطت كل أوروبا هم أنفسهم الذين لعنوه وجرموا حتى من يذكر اسمه. فالنقد والبحث والمقارنة يتيح معرفة الحقيقة. نقد الأشخاص ونقد الأشياء ونقد الأفكار وحتى نقد العقائد وإسقاط وهم القداسة عن كل ما هو إنتاج بشري هو السبيل الأوحد للرقي والتقدم والازدهار. عدا ذلك، جمود وتكلس، ولله عاقبة الأمور.