لم يكن الغزو العراقي للكويت زيارة خاطفة لتنسى، ولم تنزف العروق الكويتية بصدفة عابرة.. بركا من الدماء البشرية على يد جار عربي مسلم لا يمكن تناسيها سياسياً وتاريخياً، باستثناء كما يبدو حكومات كويتية منذ الغزو في العام 1990 حتى اليوم!
النكران هي ظاهرة نفسية تتملك الإنسان نتيجة حدث صادم، فيبرز الرفض في الاقرار في الحدث والواقع، ولكن النكران في عالمي السياسية والتاريخ ليس لهما مبرراته ولكن لهما تفسيراته وهي، بالتأكيد، ذات ابعاد سياسية ليست مبهمة!
ليس من العبث أن نعود إلى ذكرى غزو الكويت مراراً وتكراراً سواء عبر عرض جزئيات سياسية متفرقة أو لمجرد تشخيص الموقف الحكومي من ذكرى الغزو التي تشرق وتغرب في وسط حالة من النكران من قبل حكومة ممتدة، أي حكومات متعاقبة.
القوى السياسية المختلفة وكافة شرائح وفئات الشعب الكويت اتخذت موقفاً موحداً داخل الكويت وخارجها.. موقفاً مشرفاً مع الشرعية السياسية الكويتية لم تنل منه بطش الجار العراقي بل زادته تماسكاً وتلاحماً حول القيادة السياسية في مقرها المؤقت بمدينة الطائف السعودية.
ذكرى تلو الأخرى منذ العام 1990 حتى الذكرى ال 34 في العام 2024. تحل الذكرى بملامحها الموجعة وذكرياتها المؤلمة على كل بيت كويتي وضمير بشري، في حين نلمح التردد والاضطراب السياسي الرسمي مع كل ذكرى غزو الكويت!
لسنا بصدد اشعال الاختلاف مع السلطة، فالشعب الكويتي لم ينتابه الخلاف ولا الاختلاف مع السلطة حتى بعد تحرير الكويت.. نحن نكتب بعتب شديد وقسوة المواطنة الحقة على سلطة حكومية ممتدة تخشى كما يبدو ذكرى الغزو العراقي!
لم نشهد مبادرة استثمار انصهار الوحدة الوطنية الكويتية في بوتقة واحدة، لا بل على العكس تماماً.. عصبية قبلية وطائفية ومذهبية وعائلية وفئوية تفتك في الكويت وفي هويتها علناً حتى فقد القانون هيبته وحل بدلا منه الفساد في مفاصل الدولة!
كان يفترض أن تخرج الكويت في أكثر من درس اجتماعي وسياسي لترسيخ أركان الدولة المدنية، ولكن المسلك المغلوط كان خياراً رسمياً، للأسف الشديد، مما أدى إلى تراكم الأخطاء وتلاشي الدولة المدينة وتجذر الفساد حتى في المرافق الحساسة!
فضائح فساد شبه توطنت في الكويت، كشبهات طالت صفقات عسكرية وأخرى أمنية فضلا عن قضايا غسل الأموال والتزوير في الكويت وخارجها.. صراع الأقطاب بات محوراً مقلقاً ومؤرقاً لنا ومفزعاً لجيل اليوم والغد!
انشغلت الكويت من دون مبرر في شؤون إقليمية معقدة وتوغل عقيدة الغلو الأصولي، في حين غاب مشروع ترميم العلاقات مع الجار العراق ثقافياً وإعلامياً وعلى مستوى القوى المدنية بصورة خاصة.
إن شرارة العداء لم تختف عن كثير من الحناجر العراقية وهو مؤشر نحو فشل دبلوماسية كويتية قصيرة النظر منذ التحرير حتى يومنا هذا.. إخفاق في إعادة ترتيب الأوراق في محاكاة الشعب العراقي والنخب السياسية المستقلة والمتحررة من قيود فارسية.
مغامرات دبلوماسية لم تخل من تهاون وتجاهل في قراءة المشهد العراقي قبل وبعد سقوط المقبور صدام حسين، كالفوضى السياسية والعسكرية التي تمزق العراق الشقيق منذ عشرات السنوات وبمباركة وتدخل الجارة المسلمة إيران!
لا شك، أن استمرار حالة النكران لن تقود إلى الخروج نحو أفاق رحبة تستفيد منها الكويت وطناً وحكومةً، بل إن النكران لذكرى الغزو والدور الشعبي الكويتي اثناء تلك المحنة يعزز من عمق فجوة العلاقة بين الشعب والسلطة.
ندرك تماماً أن تقُبّل الهزيمة مُرة للغاية ومؤلم، خصوصاً حين تكون سياسية وعسكرية، ولكن التاريخ غير قابل للتجزئة، لذلك يجب أن ننظر بعز وفخر لذكرى الغزو وبرأس مرفوع، فالشعب الكويتي قدم درساً تاريخياً للعالم بالتلاحم ضد المحتل ومع القيادة السياسية الشرعية.
نحن لسنا ضد سياسة الحياد الكويتية، ولكننا ضد تراجع الدولة مدنياً على المستوي المحلي وسياسياً على المستوى الإقليمي، فذكرى الغزو العراقي لا ينبغي أن تغيب عن الذاكرة الرسمية والدبلوماسية الكويتية لدعم قوة الدولة إقليميا وخصوصا مع العراق المضطرب أمنياً وطائفياً وسياسياً.
نتمنى أن تتلقف الإدارة السياسية النصائح وقسوة العتاب بسعة الصدر من أجل أن تنهض الكويت كدولة مدنية قوية ومتماسكة في التعلم من دروس الغزو العراقي وعدم طي ذكرى غزو الكويت لمواجهة الاطماع الخارجية وما أكثرها اقليمياً!
*إعلامي كويتي