حين أعلنت بكين عن اتفاق السلطة الفلسطينية وحركة حماس في الثالث والعشرين من تموز (يوليو) الجاري، تراءى أمامي مشهد القسم على المصحف الشريف من قبل الرئيس محمود عباس (أبو مازن) وإسماعيل هنية لتنفيذ اتفاق المصالحة في مكة المكرمة عام 2007. حتى أن صديقًا مطلعًا على تفاصيل المصالحة آنذاك أسر لي أن المملكة، كعادتها، كانت سخية في مكافأة الموقعين على الاتفاق الذي سرعان ما انهار أمام رياح اللاثقة المتبادلة وتضارب المصالح الداخلية والإقليمية.
جرت بعدها محاولات عديدة للم شمل "الإخوة الأعداء"، وكان آخرها في موسكو أواخر فبراير الماضي، إلا أن تداعيات لغز طوفان الأقصى كانت كفيلة بتصدع أية أرضية تفاهم بين حركتي فتح وحماس.
تابع العالم العربي وتحديدًا دول الخليج ومصر والأردن "إعلان بكين". ثمة رغبة من القلب في نجاح الصين بطي صفحة الانشقاق الفلسطيني، يقابلها إضاءة من عقل التجارب بفقدان الأمل في صمود الاتفاق!
وحتى كتابة هذه الأسطر، صدر بيان قطري، متأخر، يتيم يرحب بـ "إعلان بكين" ويتطلع إلى "استدامة روح الوحدة والشراكة بين الأشقاء الفلسطينيين".
في السابع من أكتوبر الماضي، أطلقت حماس عملية طوفان الأقصى، فكان أن دفعت ثمن تفردها بالمغامرة ونقلت الصراع من صراع عربي-إسرائيلي إلى صراع حماسي-إسرائيلي. حاولت القمة العربية الإسلامية الطارئة في الرياض نوفمبر الماضي إعادة تصويب القضية بإحياء دور السلطة الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في التفاوض وحددت مبادئ أساسية للسلام العادل والشامل أبرزها قيام الدولة الفلسطينية.
وفي الثالث والعشرين من الجاري، ثمة من يرى أن إعلان بكين شكل في تداعياته السياسية الإقليمية ما هو أبعد من تداعيات طوفان الأقصى. وربما يصح التخمين هنا أن إعلان بكين، إن قدر له الصمود، قد يكون بمثابة إعلان لانسلاخ القضية الفلسطينية عن محيطها العربي والإسلامي وارتمائها في أحضان التنين الصيني المتأهب لمزاحمة الوسيط الأميركي في القضية التاريخية للشرق الأوسط.
الصين، المتضرر الأكبر اقتصاديًا من طوفان البحر الأحمر، إذ إن قيمة الصادرات والواردات التي تعبر قناة السويس من الصين تزيد على 300 مليار دولار سنويًا، تريد موطئ قدم دبلوماسي فاعل في الشرق الأوسط، وربما تذهب في اندفاعتها على حساب النفوذ الأميركي حد استضافة مؤتمر إسرائيلي فلسطيني للسلام.
في المقابل، ثمة سؤال كبير حول موقف إيران من إعلان بكين، فطهران تجيد الاستفادة من أوتار المتغيرات والتنافس الصيني الأميركي في المنطقة. وتمسك بمفاتيح انسيابية التجارة في البحر الأحمر وقد أوصلت من خلال مسيرة يافا التي ضربت مبنى قرب السفارة الأميركية في تل أبيب رسالة واضحة إلى السيد أو السيدة القادمة إلى البيت الأبيض مفادها أن مفتاح الحل والربط في قم. كما دفعت طهران بحركة حماس للتوقيع على إعلان بكين وهي أيضًا بانتظار الحصاد السياسي والاقتصادي لهذا الموقف.
لا شك أن الشعب الفلسطيني يعبر أسوأ محطاته التاريخية. ولا شك أن الانشقاق الفلسطيني كان واحدًا من الأسباب المباشرة لهذا الوضع. لكن اليقين أن جر القضية الفلسطينية نحو بازار التناطح الأميركي الصيني سيكون له تداعيات كارثية. واليقين أيضًا أن القيادات الفلسطينية واهمة إن ظنت يومًا أن طريق استعادة الحقوق يمر بعيدًا عن الرياض أو القاهرة أو محيطهم العربي والإسلامي.