منذ الإعلان عن انهيار ثلاثة بنوك في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي في ما يعتبر أكبر إفلاس بنكي يحدث منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008، والمخاوف تتزايد من تأثير انتشار هذه الظاهرة على البنوك والأفراد حول العالم. المصارف التي أعلنت الانهيار هي"سيلكون فالي" و " سيغنتشر" و"سيلفر غيت"، هذه البنوك تغطي احتياجات الشركات، وتعمل مع قطاع صناعة التكنولوجيا، والذي كان يعاني بسبب الانخفاضات الحادة في أسواق العملات المشفّرة وما تبعه من توتر بين المستثمرين.
حذّرت مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني من مزيد من الصعوبات أمام القطاع البنكي في الولايات المتحدة، إثر الأزمة الأخيرة التي نتج عنها انهيار بنك "سيليكون فالي"، من جانبها، حاولت بنوك أميركية كبرى احتواء الأزمة والمساهمة بضخ ما يقرب من 30 مليار دولار في بنك "فيرست ريبابليك"، في خطوة لتهدئة مخاوف المودعين من أن يكون البنك التالي بعد انهيار "سيلكون فالي" و"سيغنتشر" و"سيلفر غيت" الأمريكيين، رئيسة البنك المركزي الأوروبي (ECB) كريستين لاغارد قالت عقب اجتماع مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت الألمانية معلنةً رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة الرئيسية بسبب مخاوف من التضخم وسط الاضطرابات في القطاع المصرفي بعد انهيار البنوك الأمريكية والصعوبات التي يواجهها بنك كريدي سويس.
أما بالنسبة للبنوك الأوروبية، فقد اتخذت إجراءاتٍ لـ"طمأنة" الأوروبيين، رفع البنك المركزي الأوروبي معدل الفائدة الرئيسي بخمسين نقطة أساس، لتصل الفائدة إلى 3.50 في المئة، وهي تعد المرة السادسة على التوالي كزيادة، في محاولة للحد من ظاهرة التضخم في المنطقة الأوروبية. وصدرت بيانات كشفت عن تسجيل التضخم في أوروبا ارتفاعاً بـ 8.5 في المئة في فبراير شباط هذا العام.
عربياً، وعلى الرغم من تراجع البورصات الخليجية بشكل جماعي يوم الخميس، توقعت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أن يكون تأثير تعثر بنكي سيليكون فالي وسيغنتشر الأميركيين على مصارف الخليج محدوداً لتمتعها بمرونة كبيرة تجاه هذه الأزمة بسبب الدعم الحكومي للمصارف في دول منطقة الخليج.
ماذا يعني انهيار البنوك الأخير؟
يرى الخبير الاقتصادي من لندن، ناصر قلاوون، أنه ومن الناحية التقنية لا يؤثر انهيار ثلاثة بنوك على الاقتصاد الأمريكي أو العالمي، وعلى الرغم من أن بنك "سيكيلون فالي" ترتيبه رقم 16 في الولايات المتحدة، إلا أنه "خارج نظام البنوك التقليدي"، وهو ما كان حاله حتى عام 2015 لكن المدير التنفيذي للبنك قام بحملة مع بنوك أخرى ورأس ماليين أمريكيين للاتفاق بأن البنوك التي يقل رأس مالها عن 40-50 مليار دولار لا يمكن أن تغطى بقيود لجنة "دود فرانك" التي جاءت بعد الأزمة المالية 2008-2009.
يقول قلاوون لـبي بي سي: "هذا الاتفاق يعني أن البنك لن يكون في حاجة لمواجهة ثلاثة خطوط دفاع في الاحتياطي الفيدرالي أو تفرض عليها أمور بالنسبة للتجارة أو الاستثمار. المفاجأة كانت عندما قُبل هذا الاقتراح وأصبح قانوناً وقّعه الرئيس السابق ترامب عام 2018. لكن هذا البنك (سيليكون فالي) تضخ رأس ماله من 40 مليار دولار إلى 209 مليار دولار أثناء انهياره، أي بعد 4 سنوات، ما دفع المستثمرين الذين يريدون ربحاً سريعاً ومغامرة كبرى للايداع في هذا البنك خصوصاً خلال فترة كورونا".
هذا ما هدّد القطاعات التي يعمل بها ويقوم بإقراضها في الولايات المتحدة وفروع البنك في دول أخرى، وهو ما دفع البنك المركزي البريطاني مثلاً، لشراء فرع بنك سيليكون فالي هناك بقيمة 6 مليون دولار، بحسب الخبير قلاوون، ويضيف أن القضية تؤثر على قطاعات محددة مثل القطاع التقني والقطاع الطبي الناشئ.
هل سيؤثر انهيار البنوك على المنطقة العربية؟
يقول قلاوون إن رأس المال العربي والدول الصاعدة اقتصادياً في المنطقة العربية "مفتونة" بالنظام الأمريكي الرأس مالي، الذي "يقع ثم يُصلح نفسه" لارتباطه بالدولار والقوة الصناعية على مدى قرون بالاقتصاد الأمريكي. إلا أنه وبحكم أن الاستثمارات في بنك سيليكون فالي ضخمة والمنطقة العربية مرتبطة بكل ما يحصل في أمريكا مثل الشركات الكبرى كـ "مايكروسوفت" و"جوجل" وغيرها، فإن صناديق سيادية عربية وأثرياء عرب يشترون أسهم في هذه الشركات، ما يجعل المصلحة مشتركة، بحسب قوله.
ويعتقد قلاوون أن المنطقة العربية تتأثر بالقطاع المصرفي الأمريكي وخصوصاً دول المنطقة الخليجية بسبب الاستثمارات العالمية المباشرة وغير المباشرة وارتباط عملاتها بالدولار والارتباط الأمني والاستراتيجي مع واشنطن.
أزمة عالمية جديدة؟
يرى الخبير الاقتصادي من القاهرة محمد سامح أن الأزمة الحالية مختلفة عن أزمة عام 2008، وكل أزمة تتبع تسلسل زمني منفصل عن الأخرى. فأزمة عام 2008 كانت أزمة قائمة أكثر على سوء إدارة الأصول والسيولة، أما أزمة البنوك الحالية كانت عقب مواجهة البنوك التي انهارت أزمات مالية من فترة طويلة بالإضافة إلى تحقيق خسائر تشغيلية ووجود شبهات غسيل أموال.
ويقول سامح: "من غير المرجع تحوّل الأزمة الحالية لأزمة 2008 لأن الأزمة الحالية غير متعلقة بجودة أصول مثل أزمة عام 2008، لكنها أتت نتيجة ارتفاع فائدة البنك الفيدرالي وهو ما أدى إلى انخفاض قيم الأصول المالية المحتفظ بها على ميزانيات البنك وهو جزء متعلق بمخاطر المتعلقة بأي بنك ويمكن تجنبها. الأزمة حدثت عندما تم سحب مايزيد عن 40 مليار دولار في يوم واحد من بنك سيلكون فالي تحنبا لخسارة الودائع غير المؤمنة من الفيدرالي. الفيدرالي أصدر قرارات لحماية أموال مودعين البنك كاملة مهما بلغت قيمتها وهو ما أدى إلى احتواء الأزمة."
ويضيف أنه وبالنسبة إلى أزمة كريدي سويس فالأزمة ليست متعلقة بالظرف الحالي للفائدة لأن البنك واجه مشكلات متعلقة بفساد من سنوات والخسارة التي لحقت بالبنك خلال العام المالي 2022 وقدرها 7.9 مليار دولار نتيجة تخارج العملاء وانخفاض الأصول المدارة من قبل إدارة ثروات البنك وبلغت التخارجات ذروتها لتصل مايقارب 96 مليار فرنك سويسري من أصول البنك.
انهيار أم فرصة؟
يقول الخبير محمد سامح إنه وفي حال حدوث انهيار سيكون أثره على المنطقة العربية مقلقاً نظراً لارتباط المنطقة بالمنظومة المالية العالمية وكذلك وجود استثمارات سيادية عربية في البنك ووجود نسبة لا يستهان بها من أصول البنك مدارة لصالح أثرياء عرب وهو ماسيترك أثراً سلبياً على المنطقة، ويضيف: "لكن في نفس السياق هناك فرصة لإعادة تموضع النظام المصرفي السعودي والإماراتي في السوق العالمي، حيث الودائع مضمونة بنسبة 100٪ على عكس نسبة الودائع المضمونة من الفيدرالي بحد أقصى 250 ألف دولار، وهي فرصة لجذب ودائع في النظام المصرفي كنظام أكثر أماناً خصوصاً مع وجود فائض في الاحتياطات المالية لاستيراد الودائع".
نصائح للأفراد والشركات الصغيرة
في حال حصول أزمة سيولة، على النطاق الضيق ينصح الخبير قلاوون الأفراد بشراء الذهب كطريقة تقليدية وليس الأسهم أو العقارات بشكل عام، ويضيف أن الأمر يعتمد على اقتصاديات الدول على النطاق الأوسع: "أغلبية قطاعات القوى العاملة في الدول الغربية وحتى العربية تعمل من خلال التوظيف الحكومي في الأجهزة الأمنية والتربوية، إذاً البيروقراطية متضخمة في الدول العربية. فهي تعتمد بالتالي على الدولة إن كانت غنية أو فقيرة، مثلاً الدول النفطية في العالم العربي والتي تبيع الغاز لديها وفرة في المدخول إلا أنه في ذات الوقت مرتبط بقوة الدولار وبالتالي لو تراجعت الأسعار في قطاع الطاقة أو انهارت في ظل تراجع اقتصادي متوقع، سيؤثر على هذه الدول الغنية من خلال قدرتها الشرائية المرتبطة بتراجع قوة الدولار والوكالات الدولية ستمد يدها لهذه الدول الغنية لزيادة حصتها مثل البنك الدولي بهدف مكافحة الفقر".
ويتوقع قلاوون انهيار متزايد لاقتصاد بعض الدول الفقيرة أصلاً مثل سيرلنكا ولبنان وتونس وزيادة الدين العام بدلاً من انتعاش اقتصادي في ظل عدم وجود إجراءات إصلاحية في دول العالم الثالث بسبب تسلط النخب والفساد كما يقول قلاوون، بحسب المؤشرات الدولية ومعدّل دخل الفرد بالرغم من قول الدول إنها تبذل جهوداً كبيرة لتطبّق الشفافية وإجراءات لـ"إرضاء" الوكالات الدولية، إلا أنه يعتبر أن هذه الوكالات والأجهزة الدولية فشلت في فرض وتطبيق نظام موحّد وبسبب ضعف القوانين وجعل مصالح النظام الرأس مالي أولوية للنخب على حساب الطبقة المتوسطة ومحدودة الدخل، بحسب الخبير.
أما الخبير محمد سامح فينصح بتقليل التعرض في البنوك الغير مؤمنة للودائع بنسبة 100٪ ، ويضيف أنه وعلى الرغم من ارتفاع الفيدرالي لكن مع حالة عدم الوضوح في الأسواق ستكون هناك مساحة لاستكمال عملية ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق لوجوده كـ"ملاذ آمن"، وأنه سيكون من المهم خلال الفترة القادمة إعادة تقييم المخاطر وتقبّلها للأشخاص لوجود تذبذات عالية في الأسواق المالية بشكل أعلى، فسيكون على الأشخاص إعادة توزيع المحافظ الخاصة باستثماراتهم بناءً على المخاطر الجديدة، بحسب سامح.