: آخر تحديث

"تهريب" نضال قحطان.. وجع الأحلام العابرة للحدود

30
30
30
مواضيع ذات صلة

قبل نحو شهرين، أو أقل قليلًا، كنتُ قد قرأتُ رواية "مفكّر عابر حدود" لمؤلفها الألباني: غازميند كابلاني، وخرجتُ منها بمشاعر حزن لا يمكن تفسيرها إلا من خلال عبارة جريدة الغارديان التي علّقتْ على الطبعة الإنجليزية للكتاب بأنه يقودنا نحو "حدودنا الخاصّة".

جميعنا بشر، وجميع البشر يحدث أن يقفوا على الحدود أحياناً، منهم من يستطيع عبورها، ومنهم من يعجز عن تخطيها، لكننا نشترك فيما أسماه "كابلاني" برهاب الحدود، حتى لمن يحمل تأشيرة ويسير بطريقة نظامية تماماً، الجميع يشعر بوجل عند تخطيه الحدود بين بلدين، وبنسب متفاوتة، يقلق كل من يقف على خط حدودي عابراً نحو المجهول، بل إن اللحظة الراهنة أثناء الوقوف لا يبدد قلقها إلا سماع دوي ختم الجوازات الذي يؤذن بعبور آمن. الحس الإنساني واحد، ذلك أن البشر أنفسهم اتفقوا على وضع العراقيل في سبيل التنقل من بلد إلى آخر، فرسموا الحدود، وصنفوا "الآخر" إلى فئات، وجعلوا من مسألة الحرية مسألة نسبية في كل شيء، حتى حرية التنقل.

عندما حصلتُ، في معرض جدة للكتاب 2022، على نسخة من رواية "نضال محمد قحطان" الموسومة بـ "تهريب"، والصادرة عن دار ريادة للنشر والتوزيع بمدينة جدة 2021، شعرتُ برهبة الحدود مجدداً، فيكفي أن تقرأ على الغلاف الأخير للرواية هذه العبارة: "ستستمعون لي ولأي من أصدقائي عن رحلاتنا وكيفية وصولنا إلى هولندا"، لتعلم يقيناً أنك ستكرر تجربة "كابلاني" مع سردية نضال قحطان، كل ما ستحتاج إليه هو الاطلاع على مزيد من التجارب لتأكيد ما هو مؤكد بالضرورة حول رهاب الحدود، وقسوة البشر حين يتعلق الأمر بالآخر حين يصبح وافدا غير مرحّب به، وتأمل مرات العبور الفاشلة قبل نجاح آخر محاولة وقد استنفدتْ الوقت والجهد والمدّخرات للعابر نحو المجهول، أو بمعنى أدق، للهارب مما لم يستطع التعايش معه.

تنقسم الرواية، التي لا تتجاوز 113 صفحة من القطع المتوسط، إلى اثني عشر قسماً، يعرّف "قحطان" في القسم الأول منها بكامب "تيرابيل" الواقع في مدينة "إيمين" بشمال هولندا، الكامب الذي ترسل إليه السلطات الهولندية القادمين بهدف اللجوء، ويستعرض الإجراءات الروتينية التي تمر باللاجئ حتى وصوله إلى "تيرابيل". وفي القسم الثاني يعرف الكاتب بحديقة "كيوكينهوف" الحديقة التي تقع بالقرب من كامب اللجوء والتي سيتحدث فيها الأصدقاء العشرة الذين تسرد الرواية قصصهم على التوالي بدءاً من الكاتب، وهو الذي يلتزم في هذا القسم بأنه سيعيد كتابة قصص أصدقائه اللاجئين دون: "أن أقدّم لكم مساحات من الألم، بقدر ما أريد أن أعطيكم فكرة عن التجربة بكل مراراتها"، وهي القصص التي يشير الراوي إلى أنها لن تنتهي: "هذه الحكايات ستتكرر دائماً طالما هناك ظلم وانتهك للحقوق".

ثم في الأقسام العشرة التالية تسرد الرواية على التوالي: قصة العاشق لمدينة جدة الذي يهاجر بعد أن ضاقتْ به السبل كونه ليس من أبناء البلد، رغم ولادته فيها وعدم شعوره بأنه غريب إلا عند تجديد الإقامة فقط، ليصل عن طريق الـ"تهريب" إلى هولندا عبر تركيا، ثم قصة صفوان من مدينة تعز الذي يغادر اليمن هربا من الحرب الأهلية عن طريق مصر مرورا بعدد من الدول الإفريقية قبل أن يصل إلى هولندا، ثم قصة العم صالح تاجر الجوالات اليمني بمدينة جدة الذي يغادرها باتجاه فرنسا ثم إلى هولندا بعد أن تغيرت قوانين التجارة في السعودية، يليها قصة محسن العراقي الذي يترك مدينته الموصل تحت وطأة الطائفية والفساد والحرب الأهلية، فيغادر عبر تركيا إلى إيطاليا ومنها إلى هولندا، ثم وائل السوري، ثم فراس من اليمن، ثم ياسر من مدينة عدن، ثم إحسان من سوريا الذي حين يئس من عبور المطارات في مدينة أثينا اليونانية، وبعد فراغ جيوبه من أي مال نتيجة احتيال المهربين وجد نفسه أمام مطار أثينا: "أصبحت أمشي وأمشي حتى وصلت إلى نقطة التفتيش لدخولي الطائرة، ولم يطلبوا مني غير التذكرة!". وحين جلس على مقعد الطائرة التي كان يجهل إلى أين تتجه، سأل سيدة يونانية كانت تجلس بجواره: "إلى أين ستذهب هذه الرحلة؟، نظرتْ إليَّ باستغراب، ولكنها قدّرت عدم معرفتي بما هو مكتوب، فقالتْ: رحلتك ستغادر إلى ألمانيا". وصل ألمانيا دون علم سابق بوجهته، وأخيراً قصّة إسماعيل من الحديدة، الذي غادر عبر السودان فتركيا، فاليونان وصولا إلى هولندا.

هذه هي "تهريب"، الرواية التي جعلتْ من أيقونة "تهريب" محوراً للقصص العشر، وهي جميعها تشترك في أن أي منها لا يمكن أن تحدث إلا تحت وطأة البحث عن حياة كريمة بعد أن ضاقت بأبطالها السبل، فالحروب الأهلية، واستشراء الطائفية، وسيادة الفساد، وقلة فرص العمل، والبطالة التي تتوسع قاعدتها في العالم العربي يوماً بعد يوم، كل هذه كانتْ دوافع مختلفة ظاهراً، ولكن في حقيقتها تؤدي إلى استنتاج سبب واحد يجمعها، وهو ما أشار إليه نضال قحطان في ثنايا الإهداء الذي يتصدر الرواية: "إلى الذين ينتظرون الأمل، ويسكنهم الخوف من القادم". إذن، القواسم المشتركة بين أبطال الرواية كثيرة، البحث عن الأمل، وصعوبة الاستمرار في أوطان "طالما هناك ظلم وانتهاك للحقوق". 

ترد في الرواية الكثير من المواقف الطريفة، كالعابر إلى ألمانيا دون علمه، وبعضها خاضعة للصدفة كالراحل إلى بريطانيا كي تكون وجهته لكنه يجد الطريق الأسهل إلى هولندا. يشترك الأبطال جميعاً بلا استثناء في محبة أوطانهم الأم التي وفدوا منها والتعبير عن الحنين إليها، وحتى التعبير عن محبة الأوطان العربية البديلة التي عاشوا فيها شطر حيواتهم السابقة أو حتها جميعها، كما يسردون قصصهم حول محور فعل الهجرة بوصفها عملية تهريب، هي بالنسبة إليهم خلاص، لكنها بالنسبة إلى سماسرة الحدود باب لطلب الرزق والإتجار في الهم الإنساني واستغلال حاجة البعض إلى إيجاد طريق للحرية والانعتاق، كما يشترك أبطال الرواية في كونهم لا يدينون بلدانهم ولا يتحاملون على أنظمتها السياسية، بل يوصّفون الواقع الذي فروا منه بحيادٍ تام، وهم جميعاً، باستثناء العم صالح الذي كان ثريا ووصل مباشرة من جدة إلى فرنسا عبر الطائرة بمساعدة ودعم من صديقه السعودي، عانوا من المحاولات المتكررة لعبور الحدود، وكانوا شهودا على مآسي إنسانية كموت بعض الرفاق في سعيهم للهجرة، أو حدوث إصابات خطيرة للبعض، أو خيانة بعض المهربين وتركهم بين أيدي حرس حدود بعض الدول، أو السجن في دول أخرى، أو الشعور بالجوع وأكل ورق الأشجار.

إن رواية "تهريب"، الرواية الأولى بعد مجموعتين قصصيتين، للكاتب نضال قحطان، ما هي إلا لبنة جديدة في بناء سردي عالمي، فقد سبقه الكثير، وسيتلوه كثيرون، ممن يدونون الوجع الإنساني على هيئة سرد، ليدينوا الحدود، وما تجره على البشر من تمييز وإقصاء ونفي، وما يسكنها من رهاب لا مفرّ منه، ما دام هناك ظلم وفساد وانتهاك للحقوق في الأوطان الأم، وما دام هناك، على حدود الوطن البديل، أو الوطن الحلم كما يصفه قحطان، من يقف خلف الأسلاك الشائكة حاملاً سلاحه ومتربصاً بأخيه الإنسان لا لشيء إلا لأنه يسير وراء حلمه بالحرية وبإيجاد حياة كريمة. كما أن الرواية لا تنسى أن تشير في مفردتها الدلالية الأكبر وهي العنوان: "تهريب"، إلى أن البشر يمكن أن يصبحوا مجرد سلعة يتاجر بها المهربون بالاتفاق أحياناً من حرس الحدود. لكنها لا تغفل عن رواية جانب مشرق حين تحدثت حول أكثر من حدود شاهد فيها الحرس اللاجئين وتجاهلوهم وهم يعبرون، أو ألقوا القبض عليهم ولكنهم نصحوهم بمحاولة الهجرة من مكان آخر كما حدث على حدود بلد عربي إفريقي.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات