على وقع الحروب الإقليمية والصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وتصاعد التوترات الدولية على ضوء الحروب التجارية والانعكاسات الأمنية للحرب الأوكرانية، وفي ظل إعادة بناء نظام دولي جديد تزاحم فيه الصين لحجز مكانة قيادية، يقوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأول زيارة خارجية رسمية له إلى المملكة العربية السعودية، التي عُرفت بتبنيها نظرية الاستقرار وسط بيئة إقليمية مضطربة وقلقة.
لقد شهدت المنطقة الكثير من الحروب والصراعات بين الاستراتيجيات الإقليمية بهدف توسيع وفرض النفوذ، وكان ذلك على حساب الأمن والاستقرار والسلام، وهي الشروط الرئيسة لقيام النهضة والنمو الاقتصادي.
ظلّت السعودية ركيزة أساسية للأمن وللاستقرار والسلام، فهي كانت ولا زالت وسيطًا موثوقًا بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة، وفي الأزمتين السودانية واليمنية. وهي داعم للأمن والاستقرار في سوريا ولبنان، واستجابت للوساطة العراقية الصينية لمصالحة تاريخية مع إيران، وأخمَدت جميع بؤر الصراع التي أحاطت بها، وكانت كمائن سياسية لإعاقة مشروعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي بشر به ولي العهد في عام 2016 وحقق نجاحات متعددة، منها رفع دور العائدات غير النفطية في الناتج القومي، وكذلك توسيع مشاركة المرأة والشباب في إدارة وتنفيذ المشروع الوطني.
لطالما كانت واشنطن شريكًا موثوقًا في إنشاء البنية التحتية السعودية، وفي تعزيز وصيانة الأمن السعودي، وفق الشراكة في أرامكو وتدفق نفطها إلى الولايات المتحدة، وهو ما نتج عن اتفاق كوينسي بين الملك عبدالعزيز والرئيس الأمريكي روزفلت عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
لكن "سعودة" أرامكو والاكتفاء الذاتي الأميركي من النفط غيّرا معادلة "المدمرة كوينسي"، ودفع الإدارات الديمقراطية بالذات لإطلاق خيارات جديدة، مما حفّز الرياض هي الأخرى لشراكات جديدة مع الشرق مثل الصين وروسيا.
في مقابلة مشتركة مع باحث أمريكي من أحد مراكز الدراسات المعتبرة في الولايات المتحدة على قناة "الحرة"، جادل كاتب هذه السطور بأن واشنطن لا تستطيع الاستغناء عن الرياض حتى لو استغنت عن نفطها، فيما كان المحاور الأميركي يعزّز نظرة حكومته للانسحاب من الخليج، متجاهلًا الفراغ الذي ستتركه حكومته للصين. وأكدت له أنه إذا لم يكونوا محتاجين للنفط السعودي، فبالتأكيد أنهم سيحتاجون نفوذًا ما على مصادر الطاقة التي تدير الاقتصاد الصيني.
اليوم، يأتي ترامب للرياض ليس فقط لشراكة اقتصادية واستثمارية قوية مع الخليج، إنما لتخفيف الخسائر الاستراتيجية الأمريكية التي قد تحدث أمام الصين.
وللحق، فإن الرئيس ترامب كان مدركًا لمأزق بلاده الاستراتيجي هذا، فأطلق في ولايته الأولى التعاون بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، الذي تحقق على أرض الواقع من خلال مخرجات (القمة الأميركية/السعودية الخليجية) في الرياض عام 2017، التي أسفرت عن عقد شراكة استراتيجية بين البلدين سُمّيت (الرؤية الاستراتيجية المشتركة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية)، وكانت حصيلتها التوقيع على (34) اتفاقية ما بين الطرفين في مختلف المجالات (العسكرية والاقتصادية والتقنية)، تجاوزت قيمتها (380 مليار دولار)، في صفقة وُصفت بالتاريخية، التي كان يُعوّل عليها الجانبان في سبيل فتح علاقات جديدة بين الدولتين. لكن إدارة بايدن عطّلت الكثير من مفاعيل هذه الصفقات في إطار موقف سياسي سلبي من الرياض، بدأ من الحملة الانتخابية عام 2020. وهذه الإدارة أدركت، ولو متأخرة، دور القيادة السعودية في هندسة سياسات النفط العالمية من خلال الكارتل الذي أنشأته مع روسيا ومنتجين آخرين والمسمى "أوبك بلس". ولم تنفع الزيارة التي قام بها بايدن إلى جدة صيف 2022 لتدارك الخطأ ولا لإسعافه في زيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار لتحسين صورة إدارته.
صحيح أن الرئيس ترامب سيبرم في زيارته الخليجية صفقات استثمارية وعقود تسليح وبنية تحتية لمشروعات الذكاء الاصطناعي ولمشروعات نووية بنحو تريليون دولار، في لحظة أميركية تمثل قمة المعاناة للشعب الأميركي جراء السياسات الاقتصادية الديمقراطية والعجز النسبي في مواجهة التفوق التجاري الصيني. لكن الصحيح أيضًا أن السعوديين وأشقّاءهم الخليجيين سيستغلّون الحاجات الاقتصادية والاستراتيجية الأميركية من أجل الشراكة مع كبريات شركات التقنية التي تمثّل تاج الإمبراطورية الأميركية، لإطلاق مشروعات كانت عصية في السابق، مثل الشبكات الخوارزمية وبرمجيات الذكاء الاصطناعي وبرامج الطاقة المستدامة وتوطين الصناعات العسكرية والتخصيب النووي.
من الناحية السياسية، بدأ الرئيس ترامب يدرك تعقيدات أزمات الشرق الأوسط، وقبيل جولته الخليجية أظهر تباعدًا عن السياسات المتطرفة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ناتنياهو، وقد يطلق في الرياض خارطة طريق لغزة وللقضية الفلسطينية. ويُعتقد أن القيادة السعودية أطلعت نائب الرئيس الفلسطيني حسين الشيخ على أبرز معالمها في زيارته للمملكة قبل أيام قليلة.
سوريًا، يُظهر الرئيس الأميركي استعدادًا لرفع العقوبات وتغيير سياسة التجاهل نحو بلد استراتيجي قد يغيّر موازين القوى الإقليمية.
وفي العلاقة مع إيران، أصغى الرئيس ترامب لصوت السعودية والخليج في تجنب الحرب مع إيران وعدم الانزلاق لحرب شاملة مع وكيلها اليمني (الحوثي). ويتوقع أن يقوم الرئيس، بعد زيارته للرياض، بترشيد صراع الاستراتيجيات الإقليمية المتناحرة، من خلال معالجة سلمية لقضية النووي الإيراني، وسياسات متوازنة تصحح موازين القوى في الخليج، والضغط لتقليص سياسات "الملشنة"، ودفع سياسات الإصلاح الاقتصادي وإعادة البناء في المشرق العربي، والضغط على إسرائيل للتخلي عن السياسات التخريبية.