حين يحطّ دونالد ترامب رحاله في الرياض، فإنّه لا يزور مجرد عاصمة، بل يلتقي قلب الشرق النابض، وعقل المستقبل العربي…
الزيارة ليست عادية، ولا هي مدرجة في سياق المجاملات الدبلوماسية، إنها إعلان عودة رجل إلى المكان الذي آمن به حليفًا أول، ورأى فيه رقمًا عصيًا على التهميش، وورقة لا تُلعب إلا في لحظات الحسم. في الرياض، لا تُستقبل الوفود… بل تُصنع التحالفات.
الزمن مختلف، والسياق بالغ الحساسية. الولايات المتحدة تواجه تحولات داخلية وخارجية، من تراجع نفوذها التقليدي إلى صعود القوى البديلة، وفي مقدمتها ما يُعرف اليوم بـ (القطب الأوسط) الذي تتزعمه المملكة العربية السعودية. بينما يتحدث كثيرون عن نظام عالمي جديد، تتقدم السعودية بهدوء، تصنعه خطوة خطوة، لا بشعارات نظرية، بل بوقائع اقتصادية وتحالفات سياسية واستثمارات استراتيجية تُعيد تشكيل التوازنات.
زيارة ترامب تأتي في لحظة نادرة من التاريخ، حيث تتقاطع الحاجة الأميركية إلى شركاء موثوقين مع زعامة سعودية مستحقة. ليس سرًا أن ترامب يحظى بشعبية في الخليج، ليس فقط بسبب سياساته السابقة التي واجهت تمدد إيران بوضوح، بل لأنه يمثل التيار الذي يدرك أهمية التحالف مع دول لا تقبل أن تكون تابعًا في المعادلة، بل شريكًا ندّيًا يفرض احترامه. وفي هذا السياق، لا تجد واشنطن خيارًا أكثر اتزانًا من الرياض.
ترامب لا يأتي وحده، بل يصطحب معه نخبة من رؤساء كبرى الشركات التقنية والمالية والعسكرية، وهو ما يعكس الطبيعة الحقيقية للزيارة. إنها ليست رحلة سياسية تقليدية، بل منصة لترتيب مشهد عالمي جديد تتصدره السعودية من خلال قمة الاستثمار المقرر عقدها في الرياض. سيتم خلالها الإعلان عن صفقات بمئات المليارات في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والدفاع، والطاقة، والرقمنة، وهي رسائل واضحة للعالم أن السعودية أصبحت مركزًا لإنتاج السياسات والتقنيات.
من الجانب السعودي، تستثمر المملكة ثقة استراتيجية في إعادة رسم الدور الأميركي بما ينسجم مع رؤيتها 2030، لا كوصيّ على القرار، بل كشريك في مشروع استقرار عالمي متعدد الأقطاب. فالرياض لم تعد تقبل أن تكون ساحة لصراعات الآخرين، بل أصبحت منصة صادقة لحلّها. ولهذا فإن الدور السعودي في غزة، ووقف تمدد الحروب، والتحركات الذكية في الملفات اليمنية والسودانية والسورية، والحرب الروسية الأوكرانية، والتوتر الهندي الباكستاني وغيرها، كلها تعكس سياسة خارجية تنبع من منطق الدولة الراشدة، لا الانفعال المؤقت.
أكثر ما يميز هذه اللحظة هو أن السعودية، برؤيتها وقيادتها، لم تعد حليفة استراتيجية فقط، بل أصبحت طرفًا يفاوض من موقع القوة، يرسم خطوطًا حمراء، ويحفظ مصالحه ومصالح المنطقة…
زيارة ترامب، وإن حملت طابعًا اقتصاديًا، إلا أنها تعيد الاعتبار لفكرة أن القوة لا تُقاس بعدد القواعد العسكرية، بل بحجم التأثير الناعم، وبالقدرة على إنتاج البدائل السياسية والاقتصادية والثقافية.
العالم ينزلق نحو استقطاب حاد بين الشرق والغرب، بين الصين وأميركا، بين روسيا وأوروبا. وفي هذا المشهد، يبرز (القطب الأوسط) كمفهوم استراتيجي تتبناه السعودية بحنكة، يجمع بين الواقعية السياسية، والنزعة الإنسانية، والقيادة الإقليمية الواعية. فالسعودية اليوم ليست قوة مالية فقط، بل أصبحت قوة تكنولوجية، ومركزًا إقليميًا للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، والدفاع السيبراني، ومشروعات الفضاء. وفي كل هذه الملفات، تسعى الرياض لأن تكون لاعبًا رئيسيًا محوريًا.
المفاوضات التي ستجري في الرياض ستأخذ أبعادًا متعددة، من التنسيق الأمني في وجه التهديدات المشتركة، إلى بلورة مواقف موحدة تجاه مشاريع الهيمنة الإقليمية. ولكن الأهم من كل هذا، هو ما يرشح عن تلك الاجتماعات من رسائل رمزية: أن الرياض أصبحت العاصمة التي تُصنع فيها التحولات، وتُنسج منها التحالفات الكبرى. في كل جولة مصافحة، وكل صفقة تُوقّع، وكل صورة تُلتقط، يتكرس مشهد جديد لعالم لم تعد واشنطن وحدها تتحكم به، بل توازنها الرياض بالحكمة، والرؤية، والمبادرة.
إن اختيار ترامب للرياض كمحطة أولى في جولته يعكس إدراكًا عميقًا بأن الزمن الذي كانت فيه أميركا تُملي والشعوب تتلقى قد انتهى. نحن في زمن جديد، تُصاغ فيه التحالفات على أسس المصالح المتبادلة، وليس على شروط التفوق. وزيارة ترامب، مهما كانت دوافعها، تؤكد أن السعودية باتت رقمًا دوليًا لا يمكن تجاوزه، وصوتًا مسموعًا في كل ملف عالمي ملتهب.
سيخرج ترامب من هذه الزيارة محمّلًا باتفاقيات وابتسامات، لكن الأهم أنه سيعود إلى بلاده مدركًا أن المعادلة قد تغيّرت. لم تعد واشنطن تملك رفاهية إملاء الشروط، ولم تعد الرياض تبحث عن شيء سوى القمة. فالسعودية اليوم تُقبل كما هي: دولة تفرض احترامها، وتُصدر استقرارها، وتمنح حلفاءها شرعية القوة الناعمة والحكمة العاقلة.
ومع كل خطوة يمشيها ترامب في الرياض، تتكرّس حقيقة واحدة: أن السعودية ليست فقط قلب العروبة والإسلام، بل روح التوازن العالمي. قائدة قطب جديد… يسير نحو المستقبل بثقة، لا يخشى التحولات، بل يصنعها.