: آخر تحديث

الدكتورة خولة الزبيدي: احلام ميتة

42
42
46
مواضيع ذات صلة

اسمي؟ لا يهم اسمي، لقد مات زوجي بالسكتة القلبية واشعر بوحدةٍ قاتلةٍ وعليه اقتنعت بما عرضته عليَّ ابنتي بان اسافر مع مجموعةٍ من المتقاعدين من الجنسين الى مكان حلمت بان أزوره معظم عمري "نظرت اليها بكل برود جعلتني اشعر بحزنٍ مبهم، نظرت الى جميع من في الباص التي تقلهم من المطار الى الفندق، لم تهتم لنظراتهم وبقيت تخاطب نفسها بصمت ممزوج بشعور غريب لم تعهدهُ من قبل "انها ستكون سفرة تفوق الخيال في عالم خارج عن الخيال" نظرتْ من نافذة الباص، شوارعَ مزدحمة جداً الكل متداخل مع الكل، الكل يركض كانهم في سباق مع يوم القيامه، بقيتْ تبحثُ عما اذا كانت هناك ارصفة مخصصة للمشاة، الجو حار جدا ورطب جداً. هناك معهم في الباص زوجة متذمرة لم تترك لحظة في الاعتراض على كل شيء مع زوجها وتلعن الساعة التي وافقته على هذه الرحلة، انها ترتجف رعباً وتسألُ بعدم اكتراث "من هم هؤلاء الناس وماذا يفعلون هنا بهذه الكثافة؟" أجابها زوجها باستخفاف بانهم اصحاب البلد الذين جئنا لزيارته.

ساد نوع من الصمت على جميع ركاب الباص ربما من شدة الحرارة او توقف المسيرة للأزدحام في الشارع اذا كان هناك شارع، لقد حاولت رؤية أسفلت الشارع لكنها لم تفلح، تركت النظر من شباك الباص وفتحت حقيبتها اليدوية وأخذت تقلب بالأوراق والصور وتفكر في انٍ واحد كيف ستكتشف السحر في هذا المكان وكيف ستتوصل الى ما جاءت من اجله؟

وأخيراً وصلوا الى الفندق أصيب الجميع بنوع من الصدمة لأنهم كانوا يتوقعون بانهم سينزلوا في فندقٍ كما هو موجود في البروشير التي أعطاهم إياها مكتب السفريات، فندق تراثي وصالتين كبيرتين وحديقة كبيرة الى اخره من فنادق الدرجة الثالثة، حمام في كل غرفة مطلة على الشارع الرئيسي، لم تجادل ولم تتناقش بل طلبت غرفتها وتوصيل حقيبتها وجلست تحت التبريد لتتمتع بكأس من الماء البارد، انها قررت عدم اكل اي شيء خوفاً من التسمم كما أوصاها الطبيب في بلدها وطلب منها ان تشرب الماء من القناني وان تحمل معها شوكتها وملعقتها وسكينها وان تغسل يدها عدة مرات وان لا تاكل من الشارع رغم إغراءات الروائح الفواحة المنبعثة من عربات الاكل الواقفه على جانبي الطريق لكنها التزمت باكل السندويجات والطعام المقدم اليها في الفندق.

ارتمت في سريرها كجثة متعبة من السفر ونامت، استفاقت على ضوء الشمس الحاد من شباك غرفتها وأصوات الاطفال يلعبون كرة القدم في الشارع وأصوات الباعه على حينها ادركت ان الفندق واقع في وسط سوق شعبي، لم تأبه لأي شيء ما دام هناك غرفة مرتبة وسرير وحمام والباقي مستعدة ان تتجنبه لانه ليس مهماً لها ولا يقف عارضاً في طريق الوصول الى هدف سفرتها. انها في رحلة استكشاف اللذات وكفى... توقفت عن التفكير بعد ان اخذت حماماً منعشاً وارتدت ملابساً تتناسب مع جو هذا المكان، نزلت الى قاعة الطعام في الفندق لتناول افطارها لكنها وجدت مطعم الفندق فاضياً، جاءت الى مكتب الإستعلامات وضربت الجرس القابع على المكتب القديم وانتظرتٍ، تطلعت حواليها وقالت في نفسها اتمنى ان يتكلم هذا المكان ليحكي لي قصته، لقد أعجبها المكان رغم الاهمال الحاصل على هيكله، انه بيت من بيوت الطبقة الثرية المنقرضة ولكنه احتفظ بهيكله لكبريائه وتاريخه، جاءت الى الإستعلامات فتاة نحيفة كأنها تعاني من فقر الدم وبعد ان سألتها عن الافطار أجابت بان وقت الافطار انتهى في الساعة العاشرة والآن شارفت الساعة على الحادية عشر ونصف وأخبرتنا بان موعد الغذاء سيحين بعد نصف ساعة، لم ترد على العاملة ولكنها طلبت كوب شاي بالحليب وجلست على أريكة قبالة الإستعلامات وأخرجت علبة بسكويت معدنية من حقيبتها وأخذت تقضم البسكويته انتظاراً لقدوم كوب الشاي.

جلست تخاطب نفسها وبصمت كي لا يسمعها احد في انتظار كوب الشاي بالحليب، انها جائعة ولا تنكر بانها متعبة من فقدان زوجها وإلحاح ابنتها من عدم السفر واحتضار الحلم الذي عاش معها كل هذه السنين، افاقت من التخاطب الصامت مع نفسها على صوت عاملة المطعم "كوب الشاي الذي طلبتيه سيدتي" ذُهلت لطريقة الادب الجم في التخاطب عند هذا القوم، شكرتها على رقتها وسالتها "انتي من هنا؟" انا ابحث عن شخص من بلدكم كنت العب معه عندما كنت صغيرة وتربينا سوية وذهبنا الى المدرسة سوية وقضينا فترة المراهقة سوية الى حين ما احست والدتي بان اختلاطي به يُشكِلُ خطراًعليَّ قررت إرسالي الى جدتي حيث تسكن في دولة اخر، بعدها تزوجتُ وسحقتني الدنيا بمسؤولياتها ولكنني لم أنساه، فهل تدليني على هذا العنوان لربما اجده اذا ما زال هناك؟ ظلت عاملة الإستعلامات مذهولةً من قصة هذه السيدة المتعبة الكبيرة بالسن ومن بحثها عن شخص كان يوماً ما رفيقها !!!!! ردت عليها بصوت فضح مشاعرها "باستطاعتي ان اطلب لكي تاكسي ياخذكي الى المكان ان أردتي ولكنه يبعد خمس دقايق مشياً لو لم تمانعي الازدحام وفضول الناس وحرارة الجو". ناولتها ورقة رسمت عليها الطريق وتمنت لها النجاح في العثور على مبتغاها.

وضعت قبعتها البيضاء القش على رأسها بعد ان رشتها بالماء ودست في حقيبتها قنينة ماءٍ باردة وخرجت، اتبعت الخارطة ووصلت مكانها، قالت في نفسها تقودني ذكريات طفولتي الى هنا لكنها اصيبت بخيبة امل كبرى حين وجدت ان المجمع السكني قد تمت ازالته وتحول الى مجمع تسوق وعيادة طبية وملعب اطفال، لكنها لم تيأس وسالت احد اصحاب المحال عن مصير سكان المجمع  قبل ازالته، رد عليها بأدب لانه عرفها غريبة "لقد تمَّ توزيعهم على مجمعات جديدة" شرحت له قصتها كحال كل الأجانب يقولون لك كل شي "قالها في نفسه" فنصحها بان تذهب الى مكتب متخصص بالبحث عن الأشخاص المفقودين وهو سيدلها عليه، شكرته ومشت، شعرت بان  الحر استنزف كل نشاطها ولكنها بقيت مصرة على المشي للعودة الى الفندق. انها ماخوذة بالزحام وكثرة الناس والالوان البراقة التي أنساها حر الشمس، احست بالجوع  وما زادها جوعنا رائحة الاكل والمحلات الصغيرة المنتشرة على الارصفة، روائح حملتها الى أربعين سنة مضت عندما كانت تطبخ لهم مديرة البيت هذه التوابل العبقه برائحتها التي تجبرك على التوقف وطلب صحن يسد جوعك، تقربت من احد الباعة لشراء صحن من الرز واللحم والخضر لكنها تراجعت خوفا من الإصابة بالتسمم الغذائي في هذا الجو الحار والتي ستنتهي بها في احد ردهات المستشفى تعاني من تسمم غذائي، اخرجت قطعة بسكت وقنينة الماء من حقيبتها وبدات تقضم وتشرب حتى وصلت الفندق، ركضت الى غرفتها ووقفت تحت الدوش لمدة لا تعرف كم من الوقت اخذت، لفت جسدها بمحرمة كبيرة وارتطمت على سريرها وراحت في نومة عميقة لم تصحو الا على ضربات باب غرفتها، انه صوت المسافرة المرعوبة من تواجد الكثافة السكانية للبشر، طلبت منها النزول الى مطعم الفندق لتناول طعام العشاء.

غسلت وجهها وارتدت ملابس تتناسب والمناسبة ونزلت الي المطعم واختارت الجلوس الى جانب احد النزلاء لتناول وجبة طعام تعوضها عن الجوع الذي فرضته على نفسها ليومين، احست بشعور مريح لانها ستلتقي عمن تبحث عنه وحان الوقت بالشعور بالابتهاج ولو انها ليست متاكدة من العثور عليه.

خرجت مسرعة من الفندق بعد إكمال وجبة طعامها، لم تستطع الاكل بمزاجية منفتحة للهفتها على مقابلة ما ينتظرها، مرت بسوق او أسواق متلاصقة مزدحمة بالالوان البراقة، اشترت شالاً جميلاً من احد الباعة وسألته عن عنوان المكتب فقال لها أتبعيني، عبر الشارع المزدحم بها وفتح باباً خشبية شبه متهرية وطلب منها اللحاق به عبر سلالم ضيقة ومظلمة، لحقته بصمت وقلبها يرتجف لكن اصرارها للوصول جعلها تشعر بنشاطٍ وشجاعةٍ لم تعهدها من قبل، فتح الصبي باب غرفة عفنة شبه مظلمة يجلس رجل في زاوية على منضدة خلف أوراق مكدسة ومروحة على منضدة صغيرة تبث هواءاً حاراً عفناً، طلبت منه فتح النافذة فقال لها انها مغلقة منذ زمن الاحتلال البريطاني، طلب منها الجلوس وقال لها اجلسي لا تخافي فانه كرسي متين، جلست وقررت ان تطرح موضوعها بسرعة وتخرج لتشم الهواء في الخارج رغم رطوبته وحرارته الفائقة، اعطته الصور والرسائل والمعلومات، نظر الى احد الصور بعمق وحك شعره الدهني وقال لها بكل هدوء اعتقد رايتُ هذا الشخص، أعطني يومين سأتصل بكِ كي نلتقي وذكر لها أتعابه فوافقت وخرجت مسرعة الى الشارع يغمرها شعور غريب لم تعهدهُ منذ ان تزوجت، اخِذت نفساً عميقاً ومشت بين طرقات السوق ماخوذة بالأصوات والبضائع والالوان وروائح التوابل حتى وصلت الفندق، نادتها عاملة الإستعلامات لكنها لم تعرها انتباهاً، توجهت الى غرفتها وخلعت ملابسها المبتلة من العرق المتصبب من شدة الحرارة والرطوبة خارج الفندق ووقفت تحت الدوش، شعرت براحة بدنية لكن قلقة جداً من نتيجة البحث عنه، رن جرس التلفون في غرفتها ورفعت السماعة فاذا بصوت ابنتها في الطرف الاخر تسال عنها فطمئنتها وتناولوا بعض من فعاليات الحياة اليومية خارج الفندق وعندما سألتها ابنتها متى ستعود أجابت بانها لا تعرف، ستبقى هنا لفترة غير محددة لانها ما زالت تبحث عن السحر الذي جاءت من اجله، اطمئنت على ابنتها وأغلقت التلفون، كورت بدنها النحيل تحت الثوب القطني الفضفاض الذي ترتديه وجلست على سريرها، وضعت رأسها بين ساقيها الطويلتين وتركت العنان لأحلامها، ربما ستلتقي به، انها حرة وليس هناك مانع يقف في طريقها من التفكير به، غطت في نوم عميق ورأت نفسها تركض بحقل طويل عريض اخضر في اخضر، تركض وتقفز وحين تقفز تجد نفسها قد طارت في الهواء، فردت يديها وهي تطير ونظرت حواليها في السماء الساعة ازدحام من النجوم فقالت لنفسها حتى هنا الازدحام لكنه ازدحام جميل بنجومٍ لامعةٍ وتخيلت بان هذه النجوم تبتسم لها، احست بان جسدها النحيل الطويل اخف حتى من الريشة، فزعت من نومها على اصوات طرق خفيف على الباب وإذا بعاملة الاستعلامات تخبرها بان هناك شخص. ينتظرها في الصالة الاماميه، وضعت نعلاً خفيفاً في رجليها ولم تأبه بتغير ثوبها ونزلت مهرولة لترى من يريد رؤيتها، توقفت امام الشخص ونظرت اليه نظرة استجواب، وقالت لماذا انت هنا؟ قال لها بان لديه جواباً موثوقاً للموضوع برمته، جلست على الكنبة التي بجانبه منتظرة اي خبر منه، قال لها بانه على استعداد لأخذها الى حيث يسكن، شعرت بفرحة غامرة وطلبت من بضع دقائق كي تغير ملابسها.

وبعد اقل من دقيقتين ظهرت أمامه فقام ومشى دون ان ينطق بكلمة، مشت خلفه كالطفلة وهي تقول في نفسها بان ستقول له كذا وكذا وتشرح له ما حصل لها واشياء اخرى في بالها قررت ان تقولها له، وصل الاثنان الى حارة ضيقة على جانبيها بيوت ينبعث منها أصوات الزحام، سارت ولم تأبه لأي شئ، وصلوا الى بيتٍ ببابٍ ضيقة زرقاء اللون، ضرب الدليل على الباب وإذا بمرأة تظهر على البابِ فشرح لها الدليل القصة فنظرت اليها باستغراب مشوب بالفضولِ فاذا بها تجهش بالبكاء، شرحت لها بان زوجها توفي قبل عامين بمرض السل، سألتها اذا كان لديهما اطفال أجابت بانه كان عقيماً .

لم تقل شيئا، اصابها خرس مؤقت واستدارت والدموع تسيل على خديها، لم تَرَ طريقها فاتكأت على كتف الدليل ومشت، خرجوا من الطريق الضيق وإذا بها وسط الشارع المزدحم، جلست على الارض في وسط الشارع لم تأبه للزحام ولا للمارة ولا للسيارات وراحت في نوبة بكاء هستيرية حزناً على أحلامها وآمالها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات