تعتبر الصورة على غرار ما توصلت إليه من بحوث وتعاريف - وباختصار - ذلك الشكل المسطح الذي يغريك بأن تلج بداخله وتغوص بين أعماقه لتكتشف تفاصيله الدقيقة. وفي هذا المقال، نقف على مقاربة مفهوم الصورة عند الفنان البلجيكي رينيه فرانسوا غِزلان ماغريت (1898-1967) - باعتبارها فعلا تشكيليا يتحدى مفهوم الواقع وذلك من خلال قراءة في لوحته "هذا ليس غليونا" (صورة 1).
من خلال عمله الفني الشهير "هذا ليس غليونا" يأكد الفنـان ماغريت بأن لوحته ليست تقديما لغالون حقيقي، وهو ما يحيـل بطبيعة الحال ومن خلال العودة إلى هذا الرسم البياني بأن النفي في موقعه (هذا ليس غالونا) ذلك أن مفهوم الغالون لا ينطبق على تمثيله أي صورة الغالون ولكن على المثال الحقيقي له. بهذه الطريـــــقة يصبح هذا العمل الفني بمثابة دعوة للتأمل في هذا الغرض على حدا ومنأى من أي شيء آخر، حتى ولو كان هذا الغرض مصورا بطريقة واقعية إلى أبعد الحدود، فإن اللوحة التي تعيـد تمثيل الغالون هي ليست غالونا فلا يمكن ملؤه ولا تدخينه مثلما نفعل مع الغالون الحقيقي.

صورة 1. رينيه ماغريت، زيت على قماش، 62.2 × 81 سم، متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون، 1929
إن التعمق في مسألة العلاقة القائمة بين الصورة والنص والغرض الحقيقي "الغالون" يمكن أن يحيلنا إلى قراءات عديدة وهو طرح متجدد لإشكالية المحاكاة، فيمكن أن يكون لذات الغرض صور عديدة تدل كل واحدة على حدا على أنها نسخة طبق الأصل لاسم ما، هذه الصور المختلفة دليل قاطع على إمكانية استقلالية الغرض عن الكلمة أو الكلمة عن الغرض وبنفس الدرجة الصورة عن الكلمة والصورة عن الغرض، فيتلاعب ماغريت بالمصطلحات ويتعمد التقابل بين الأسماء والأغراض لكي يثير الانتباه لهذه العلاقات بالأساس.
يتمتع ماغريت بموهبة المغالطة فيتلاعب بالتقابل بين الكلمات و الصور، وبالتالي يطرح علاقات جديدة فيما بينها تحيل إلى الاستغراب والدهشة، كما تطرح في الآن ذاته التساؤل حول العلاقة السائدة بين الصـــــــورة والكلمة وبين الغرض والصـــــورة وبين الإسم والصورة كذلك، فإما أن يكون اختيار الاسم بصفة اعتباطية مقارنة بالصورة أو بالنسبة لأغراض يعيد تمثيلها مقارنة لأسمائها، أو أن صورة الغرض يختارها بصفة اعتباطية لاسم يشير إليه، منطقه الوحيد هو المغالطة واختياره مربك إلى أبعد الحدود، وهدفه الوحيد هو التفريق بين مفهوم الغرض وصورة الغرض والمثال، فإذا وقعت المغالطة في الاسم فإنه يمكن أن تقع على مستوى الصورة أو الغرض عينه.
يتلاعب الفنـــان بالعادة المتعارف عليها في مجال العلاقة التي تصل الكلمة بالمعنى وبالشيء في حد ذاته، وبالتالي يتعمد الفنان طرح مسألة هذه العلاقة ويستعيد السؤال حول العلاقات الوطيدة التي تربط بين الشيء واسمه ومعناه، فهل أن الأسماء تتعارض مع الصور التي تصاحبها أم أن الأغراض تعيد تمثيل الأسماء؟، فمن غير المنطقي أن نقطع الصلة بين الغرض وصورة الغرض، فإذا حصل النفي أو المغالطة في الاسم فإنه يمكن أن تحصل المغالطة أيضا على مستوى الغرض أو صورته على حد السواء.
إن هذا الكسر بين الصورة والغرض على الرغم من ضرورة الصلة الموضوعية بينهما ليس بأقل أهمية من فصل الاسم عن الصورة أو الغرض في حد ذاته حسب رأي الفنان. وبما أن الصورة تعيد تمثيل الأشياء فإن الاسم والغرض هما بكل الأحوال متصلين بصفة كلية في العرف التاريخي لاستعمال محدد مهما كان سواء اتفاقيا كان أو اعتبــاطيا في اختياره وتأسيسه.
يحول ماغريت هذه العلاقات التقليدية والبديهية لتصبح العلاقة بين الغرض وصورته واسمه موضع استفهام ليحصل لديه استقلال عن منطق وموروث ثقافي بأكمله يحدد ويضبط حقيقة العلاقة بين المعنى بالشيء والشيء في حد ذاته وبين صورة الغرض وصورة الكلمة أو الاسم. فالاسم هو في الحقيقة ينتمي إلى اللغة وهو ما لا نجده في الكلمة، والكلمة لغة، بينما يختلف الغرض عن الصورة. وفي كل الأحوال يحاول الفنان أن يقنع المشاهد لعمله بأن الصورة تقنية تواصل بصري تختلف بصفة قطعية عن الغرض المثال والاسم والكلمة.
يحيلنا هذا العمل لكيفية رؤية الفنان للصورة بطريقة غرائبية وسريالية من خلال تجاوز البعد النفعي والاستعمالي للأشياء. فيطرح إعادة تفكير في هذا الكون عبر إعادة صياغته من منطلق طرح غرائبي وليس من مجرد منطلق بعد وظيفي، ومن ثمة ينتقل من عالم يتخيله ثم يبتكره.
يتقن الفنان التلاعب بالملكات الحسية وأولها الإبصار، فيحاول أن يحدث إرباكا أصله تقابل بين صورة الكلمة وصورة الغرض، وبذلك يطرح أمام الفكر إمكانية قبول مستوى جديد من التعامل مع المفاهيم ولكن من خلال قبول خطر المجازفة بما أن البصر سيحاول أن يكتفـــــي بإمكانية وحيدة صحيحة. فعدم التطابق بين الكلمة والشيء غير معقول بالمرة وسريالي إلى أبعد الحدود، وهو إستراتيجية موجهة هدفها أن يحصل تضاد مع المبصر، وأن يقع تقبل وجهة نظر مستقلة من خلال انسجامها مع نقطة نظر خارج نطاق البعد النفعـي والاستعمالي للشيء. وبذلك يقترح الفنـان العديد من الممكنات الغير منطقية من العلاقات بين نص وصورة وشيء حقيقي، فإن وجهة النظر المتقبلة خارج نطاق الوظيفي والنفعي هي وجهة نظر مهمتها القصوى هي مهاجمة واستفزاز العلاقات المألوفة لكي تقلبها رأسا على عقب.
يستفز هذا التقابل بين الاسم والغرض وظيفة وطبيعة الصورة كما يعلن بجميع الوسائل عن استقلالية تامة للصورة عن أي شيء آخر، فلا يمكن أن نعتبر الصورة مجرد وسيلة لنقل توافق تام مع الأشياء، فعلى عكس ذلك تماما فإن الصورة لها القدرة على أن تطرح إمكانية التفكير في المهم والأهم من خلال العلاقة الدخيلة للأسماء في علاقتها بالأشياء التي يقع تسميتها، وصورا في علاقتها بالأغراض التي في الحقيقة هي تعيد تمثيلها.
الفكر يقترح أشياء صحيحة وغير قابلة للتعويض يمكن أن نجدها في صور أخرى فيقوم الفنان بمعالجتها ليطرح أسئلة أخرى، ولكيلا تتورط في منظور المستعملات والوظائف فإن الصورة تتجاوز تقديم نفسها كنسخ من خلال تعديل على مستوى خصائصها التوضيحية، ومن خلال تخطي تقليدها الأعمى للأغراض، لذلك يرى الفنان أن تقيدنا بالمعرفة المعجمية هو "جريمة" في حق حرية الفكر والتخيل. فالصورة لدى ماغريت تمر عبر مراحل إعادة بناء هيكلي بالكامل، بحيث يكون الغرض الذي يقدمه لا يحقق وجوده إلا بشرط الهروب من كل المقومات والملزمات الاجتماعية التي تمثل في الآن ذاته تسلطا وسلطة مجبرة.
يضع الفنان تلك العلاقة على المحك ولا يخضع للملزمات والمتلازمات ويفسخ كل مرجعية معرفية لذاكرة وتاريخ ذلك الشيء ليصنع مرجعية خاصة به ولا يكترث بالتي سبقته. كما لا يكترث بتمثيل الغرض كما هو مصور في الذاكرة وفي الأذهان ولا يهتم بالعلاقة الملزمة لهما، وإنما لا يقدم الغرض إلا في حد ذاته ولا يخبئ أي شيء غير مرئي بل بالعكس فإنه لا يمتثل لا إلى مثال ولا إلى فكرة ولا يعترف بما نسميه غالونا أو شجرة أو منزلا، وإنما يكترث سوى للغرض في حد ذاته وما تقدمه الصورة هو شيء آخر مختلف تماما ولا يمثل سوى نفسه، فلا يسمى الغرض باسم ولا ينتمي الغرض لاسم ما، ليعلن كل منهما استقلاله عن الآخر نظرا لانتمائهما لعوالم مختلفة تماما.
يريد الفنان من خلال لوحته أن يقنع المشاهد بأن الغرض المصور يتعارض تماما مع الغرض الحقيقي ذي الاستعمال اليومي والموجود فعليا والذي ينتمي لعالم همه الوحيــــد هو أداء الوظيفة على أحسن وجه، في المقابل فإن الغرض الذي يقع تخيله وتصويره يهرب من كل المقننات والصيغ الوصفية والوظيفية. فالغرض حسب نظره يختلف عن الشيء المبصر داخل اللوحة ولا يتكامل معه كما هو مألوف لدى المشاهد.
يتضح لنا حينها أن الصورة لدى ماغريت زئبقية الملمس لا تكاد تستطيع أن تتحصل على مجملها أو أن تحدد هيأتها ولا هويتها. فالتصوير هو فضاء التقاء كما هو فضاء تنافر كل من النص والصورة في الآن ذاته، وهو مغامرة جديدة تدور أحداثها داخل فضاء اللوحة ليطفو على سطحها كل من الصورة والكلمات التي تتحرك في شكل دائري سرمدي مزيحة الغرض والشيء الحقيقي في حد ذاته من مجال فضائها، ولكن مزيحة إياه أيضا من المجال المعرفي المتعارف عليه كما هو. وبذلك يكشف ماغريت عن تمرد يمتد إلى فضاء اللوحة في حد ذاته لتعلن اللوحة عن استقلالها عن أي مرجعية في نهاية المطاف.
يكشف الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو النقـاب عن هذه العلاقة الداخلية في فضـــــاء لوحة ماغريت، ويثبت انطلاقا من الاقتداء بأعمال هذا الفنان تلاشي واختفاء الفكرة العلمانية لـ “تمثيل مشابهة"، وليتبنى بالنتيجة فكرة أن الصورة لم تكن ولن تكون مجرد شبح وانعكاس شاحب للغرض المثال. كما نلحظ أيضا تلاشي هذه الفكرة لدى فريدريك نيتشه عندما يؤسس لـ “تشريع لغوي" يثبت من خلاله بأن أول اختلاف يمكن أن نميز عبره أي غرض عن غيره هو الاختلاف بين الحقيقة والكذب.
كما يستنكر الفنان بول نوج من ناحيته هذه الثقة العمياء للغة، وبالنتيجة للعلاقة بين الغرض وصورته، ويفسر على طريقته فكرة "الاختراع الموضوعي" ليستنتج بأن فكرة الغرض الذي له وجود شخصي خاص ومستقل عن الموضوع غير قابل للنقل ولا للنسخ بصفة قطعية. لذلك يقترح ماغريت كرد على هذا التلاشي والاختفاء للغرض المثال داخل اللوحة التلاعب بصورة الغرض ليجمع بين الحقيقة ومغالطة هذه الحقيقة في الآن ذاته. وكأننا بالفنان يتوقع نظرة الكاتب غي ديبور بقوله "في هذا الكون الذي هو حقـيـقة معكوسة، فإن الحقيـقة هي لحظة خطأ" ، كما يجعل ماغريت وبطريقة فجئية ومرئية فضاء اللوحة فضاء لامتناهي للمتشابهات، ولكنه يستبعد بصفة نهائية فكرة التشابه التقليدية في حد ذاتها وذلك من خلال تعمد التضاد على مستوى المرجعية، ومن خلال التلاعب بمختلف مستويات العلاقات بين المثـال والدال والمدلول، وعبر استغلال منطق خاص به بمنأى عن أي قاعدة تنتمي لا للغة ولا للشكل على حد السواء.
يتعمق الفنان في أدوات التملك عبر التكييف بين عناصر المثول والتمثيل، فيتفحص مسببات ومسميات كل من التطابق (التماثل) والتشابه مستفزا لهذه العلاقات التي تصل بين الغرض وصورته، فالتماثل يمكن أن يكون بمثابة تشابه كلي أو جزئي، كما يمكن أن تكون هناك صيغة تناظرية فيما بينهما، و لكن معظم المعاجم ليست متفقة على نفس التفاسير، فمثلا المعجم الفرنسي "لو بوتي لاروس" يفسر كلمة تماثل كـ"تشابه بنسبة أقل أو أكثر مثالية، تماثل" ويمكن أيضا أن يكون التماثل على نفس معنى التشابه، و لكن الفنان ماغريت لم يكتفي بالتمييز بين التشابه والتماثل على المستوى المعجمي، لا بل يؤكد ويهتم بالتفريق بينهما على وجه الخصوص، فبالنسبة له فإن التماثل هو بمثابة تمثيل واقعية للغرض وليست تشابها على الإطلاق. فالتشابه حسب رأيه لا ينتمي سوى لمجال الفكر لا غير، أما الرسم فلا يكون سوى تماثل مع الغرض إذا ما وقع تمثيله. فـ "التصوير متعارف تسميته بفن التشابه. ولكن صورة مرسومة يكمن ألا تشبه أي شيء. فهو لا ينتمي سوى للفكر التشابهي. فالفكر يمكن أن يشبه صورة مصورة حينما تصبح معروفة بذلك (صورة مصورة)" فالتصويــر لم يكن ولن يكون حسب رأيه تمثيلا للواقع ولكنه مجال تتكون بداخله فكرة خاصة بالفنان حول هذا الغرض.
وعلى عكس ما هو متعارف عليه من كلمة التشابه فإنها تمثل بالنسبة لمارغريت عملا ذهنيا خالصا كما أنها عملية مكتنفة بالأسرار ومستوعبة لممكنات وإمكانات عديدة. "فالتشابه يتحدد من خلال الفعل الأساسي للفكر، فالفكر متشابه عندما يصبح ما يقدمه له العالم -وهو يستعيد ما قدمه- الغموض الذي بدونه لا يمكن أن توجد أي إمكانية للوجود ولا أي إمكانية للفكر." "فمن يجرؤ على المطالبة بتمثيل غالون هي غالون؟ من يستطيع تدخين الغالون الموجود بلوحتي؟ لا أحد. إذا فهذا ليس غالونا."
وهكذا، يقلب الفنان ماغريت جميع المعطيات السائدة ويهاجم العرف والمتعارف بلغته التشكيلية الفريدة من نوعها، ويطرح إشكالية التمثيل من خلال تجاوز مفهوم التصوير على أنه فن تشابهي بالأساس. ليتحالف مع نظرة الرسام الأمريكي سيدني غودمان حول اللزوم والتلازم مع منطق التشابه مع الواقع، فحسب رأي هذا الأخير فإن كل تمثيل هو عملية رمزية بالأساس. حيث لا يمكن للصورة أن تعيد تمثيل غرض ما إلا إذا ما كانت رمزا له بأي طريقة من الطرق. ولكن لا يوجد أي مستوى للتشابه يمكن أن يكون كافيا لكي يؤسس لعلاقة مرجعية متينة ولا قوية بين الغرض والصورة. الشيء الذي يحيلنا إلى أن التمثيل مستقل عن التشابه ويختلف عنه تماما بما انه يمكن لأي شيء أن يعيد تمثيل أي شيء آخر دون استثناءات. و"في الواقع، من أجل أن يعيــد التصويـر تمثيــل غرض، لا بد له من أن يكون رمزا لهذا الغرض، ومرجعا له. فلا يوجد أي درجة من التشابه الكافية من أجل إنشـاء علاقة مرجعية التصوير للغرض. والتشابه غير ضروري للمرجع، لأنه يمكن لأي شيء أن يعيد تمثيل أي شيء آخر." وهنا يتفق ماغريت مع ما توصل إليه غودمان ويعبر عن نفس الفكرة بقوله " الشكل أيا كان يمكنه أن يعوض صورة غرض ما."