يرصد كتاب "خيالات الشرق.. رحلتي إلى افتتاح قناة السويس" فترة مهمة من تاريخ مصر إبان حكم أسرة محمد علي، وما تميزت به من ظلم وجور لحق الشعب دعمه الأجانب ومدى الهوة الشاسعة بين حياتي العاصمة والأرياف حينها.
إيلاف: يعد إيسا دي كيروش من أعظم كتاب الواقعية والرومانسية البرتغاليين في القرن 19م.. إلتحق بكلية الحقوق في جامعة كويمبرا وتخرج فيها عام 1866.
نشر قبل تخرجه سلسلة من المقالات في صحيفة "غازيتا دي برتغال"، التي أثارت جدلًا كبيرًا بين القراء لحداثة أسلوبها الأدبي. مارس المحاماة منذ تخرجه في العاصمة لشبونة، وأصدر جريدة محلية في إيڤورا. جاء إلى القاهرة مدعوًا إلى المشاركة في إفتتاح قناة السويس 1869، نشر بعدها سلسلة من المقالات عن رحلته في جريدة "الأخبار" البرتغالية بعنوان "من بورسعيد إلى السويس"، والتي جمعت في كتاب نشر بعد وفاته بعنوان "مصر.. مذكرات رحلة".
إلى الدبلوماسية
بعد ذلك نشر روايته الأولى في العام نفسه بعنوان "سر طريق سينترا"، وهي رواية شبه بوليسية. وبعد عودته من مصر استقر في "ليريا"، حيث كتب أولى رواياته الواقعية "جريمة الأب أمارو" عام 1876. أسس وأدار مع صديقه راماليو أورتيجاو صحيفة "الأشواك" التي تميزت بالنقد اللاذع، وبدأت إصداراتها عم 1871.
رصد لمظاهر الحياة في مصر إبان حكم أسرة محمد علي |
عمل في السلك الدبلوماسي منذ 1872 بتولي منصب قنصل البرتغال في كوبا لمدة عامين، زار خلالهما أميركا الوسطى والولايات المتحدة الأميركية. ثم نشر عام 1874 روايته "طرائف فتاة شقراء" في جريدة الأخبار، وفي العام نفسه عيّن قنصلًا في إنجلترا، وكتب هناك روايته الثالثة "ابن العم برازيليو" 1875م.
كما نشر أيضًا "رسائل من إنجلترا" في جريدة بورتو "أحداث الساعة"، وبدأ في كتابة سلسلة من اثنتي عشرة رواية عن البرتغال بعنوان "مشاهد من الحياة في البرتغال"، ثم نقل إلى بريستول في جنوب غرب إنجلترا في 1878م، وكتب هناك رواية "العاصمة" التي نشرت بعد وفاته في 1925، وجسدت مع روايته "شعوب المايا" تيار الواقعية في أعماله. وفي عام 1895عيّن قنصلًا في باريس، حيث عمل هناك حتى وفاته في 16 أغسطس 1900.
تأريخ حقبة مصرية
هذا الكتاب لكيروش "خيالات الشرق.. رحلتي إلى افتتاح قناة السويس"، الذي جمعت مادته من بين مذكراته التي وجدت في بيته بعد وفاته في باريس، فصدرت أولى طبعاته عام 1926، أي بعد وفاة الكاتب بربع قرن تقريبًا. وقد ترجم أخيرًا وصدر هذا الأسبوع عن دار العربي للنشر، ترجمة د. السيد محمد واصل، الذي قدم له المترجم، وأيضًا ابن المؤلف جوزيه ماريا دي إيسا دي كيروش.
تكمن أهمية الكتاب في رصد بعض مظاهر الحياة في مصر إبان حكم أسرة محمد علي، خاصة في كشف مظاهر الظلم والجور الواقع على أبناء هذا الشعب من جانب، والجاليات الأجنبية التي جاءت لتأكل من خيراته وتستمتع بثرواته من جانب آخر، ساعدهم على ذلك جور الحكام ونصرهم الأجانب على أبناء هذا الوطن. كما توضح بالتفصيل ألوان البذخ والإسراف الموجودة في المجتمع القاهري ومعاناة أهل الريف والأحياء الفقيرة من صلف العيش وقلة الموارد.
فضلًا عن ذلك، ووفقًا للمترجم د.السـيد محـمد واصل، فالكتاب يتناول وصفًا للآثار التي زارها كيروش حينذاك، إضافة إلى شهادة مهمة لفرديناند ديليسبس، مهندس قناة السويس، عن الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية في تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر الحديث.
نظرة الغرب إلينا
ورأى أن الكتاب يقدم نبذة عن فكر الغرب ورؤيته تجاهنا منذ ما يربو على قرن وربع من الزمان، حتى نعرف الأسس التي بنى عليها الغرب أفكاره ونظرته إلى مصر والشرق حتى يومنا هذا، فقبل أن نتواصل مع الحضارة الغربية يجب أن نعرف كيف نبدو في عيونهم وما هي الأسس التي بنوا عليها أفكارهم ومدى مصداقية الصورة التي رسموها وما زالوا يرسمونها لنا حتى الآن.
وقال د. السـيد محمد واصل: "بذلت جهدًا كبيرًا في الحصول على نسخة من الكتاب، حيث إنه مضى على نشره ما يقرب من قرن من الزمان. فسافرت خصيصًا إلى البرتغال في صيف عام 2010، وأخذت أبحث عنه في المكتبات الكبرى، فلم أجده. فأخذت أبحث عنه في رفقة أسرة برتغالية صديقة في المكتبات القديمة ومحال بيع الكتب القديمة، حتى وجدنا نسخة واحدة منه. ورغم صعوبة لغة الكاتب في أعماله كلها، ورغم ما يشوب النص من تناقض وعدم إتصال الكتاب في خط واحد يضمن له التناسق ووحدة المصطلح، إلا أنني بذلت قصارى جهدي حتى أجعل أسلوبه عربيًا رصينًا، وموضوعه متسقًا متصلًا ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، كما اجتهدت في كشف غموض أسماء الأعلام والأماكن والموضوعات بما أضفته من هوامش، حتى لا تقف عائقًا أمام القارئ العربي يحول دون استمتاعه بأسلوب الكاتب الذي يعتبره النقاد أعظم من كتب بالبرتغالية في القرن التاسع عشر.
إعادة صياغة مجتمعية
أما جوزيه ماريا دي إيسا دي كيروش، نجل المؤلف، فرأى أن الكتاب عبارة عن مذكرات دوّنها إيسا دي كيروش خلال رحلته تلك والتي عُثر عليها بين أوراقه بعد 57 عامًا من وفاته.. تحدث نجل المؤلف عن جمعه لهذه المذكرات موضحًا: "وجدت نفسي - وبعدما استجليت أمر المخطوطات - أمام مجموعة من المذكرات المبعثرة والأوصاف المتباعدة لمدن ومقابر ومساجد وأهرامات وعمائر ومناظر طبيعية ورقصات وأغان وأنواع من الملابس، وأمام مجتمع شرقي مبهم وغامض، كان لا بد من تنظيمه وإعادة صياغته، وفق خطة تعطي للرحلة حظًا من التماسك وللكتاب شيئًا من الوحدة".
أضاف "وكان العثور على جواز السفر القديم ذي الطيات الممزقة والحواف المقروضة - وقد بدا عليه القدم ومضى عليه نصف قرن من الزمان - هو ما جعل عملي هذا ممكنًا. وقد ساعدتني التأشيرات على الورقة الملحقة بالجواز على إعادة ترتيب الرحلة من جديد وتحديد مراحلها المتعاقبة وعلى تنظيم الملاحظات المتفرقة - أو الفصول - في ترتيبها المنطقي والطبيعي. وبذلك استطعت التحقق من أنه كان قد خرج من لشبونة في 23 أكتوبر، ووصل إلى الإسكندرية في 5 نوفمبر 1869م، بعدما توقف في قادش وجبل طارق ومالطا، ومكث في الإسكندرية قليلًا، ثم توجه إلى القاهرة، حيث استقر في فندق شيبرد الفخم، وأنطلق من هناك إلى هليوبوليس، وإلى زيارة الأهرام بالجيزة والمعابد في سقارة والأطلال في منف".
وتابع: "بحلول السابع عشر من نوفمبر، وهو يوم افتتاح قناة السويس، لا بد وأنه كان في السويس، حيث إنه دعي من قبل الخديوي إلى المشاركة خصيصًا في هذا الحدث. وفي 26 من الشهر نفسه يعود من جديد إلى الإسكندرية، حيث بعث بجوازه لنيل تأشيرة سفر إلى بيروت، ثم رحل إلى فلسطين ولبنان، في رحلة سريعة خاطفة، فنال تأشيرة رجوع إلى الإسكندرية من جديد في 11 ديسمبر، وفي 26 من الشهر عينه كانا في الثغر الإسكندري عائدين إلى البرتغال".
سياحة ومغامرات
وحول تسمية جوزيه ماريا لهذه المذكرات باسم "خيالات الشرق"، قال: "لي الحق في تلك التسمية، إذ إن الرحلة لها سرعة الطيف العابر. وقد استغرقت أكثر من ستة أسابيع بقليل، تتابعت فيها بسرعة كبيرة المناظر الطبيعية والآثار والإنطباعات. وفيها تتابعت اللوحات، وتوالت الملاحظات، وبدأ إيسا دي كيروش شديد النهم لرؤية كل شيء وفهم كل شيء، بدأ يستغل كل لحظة، وملأ كل أيامه بأحاسيس جديدة، وطاف بلاد الفراعنة العتيقة بحيوية بالغة، كما تأمل المشاهد الروحانية التي يصفها الإنجيل هناك. رأيناه يسافر بالقطار وبالمركب وعلى ظهر الحصان، ويجول البلاد من جانب إلى آخر من دون كلل أو ملل".
أضاف: "حضر إحتفالات السويس، وامتطى صهوة جواده في الصحراء، وتسلق الجبال، وجاب الأودية، جال بشوارع القاهرة على ظهر أتان مصري، وزار المتاحف والمعابد والمساجد والأطلال. تجول بالحنطور، وتسلق الأهرامات وركب النيل، تمدد في مقاعد الأوبرا القاهرية الوثيرة، وصلى بجانب قبر المسيح المقدس، تناقش وتجادل ودرس وتفلسف، ولاحظ ورأى كل شيء وسط هذه الدوامة من الأحاسيس والأنشطة محاولًا أن يركز - من دون أدنى شك - على معانى الأشياء وأشكالها، وأخذ يجمع الملاحظات ويدوّن الإنطباعات والتعليقات، وخلف لنا مادة كاملة تكفي لعمل مجلد كامل".
كشف جوزيه ماريا عن كونه لا يدري حقيقة كيف ولا متى كُتِبَت هذه المذكرات، فهي تتكون من ثلاث كراسات صغيرة للجيب، لا تتوالى الأحداث فيها بترتيبها التاريخي، ومن حزمة كبيرة من الأوراق الصغيرة كتبت جميعًا بحروف صغيرة جدًا يصعب تمييزها أحيانًا، سواء كتبت بالقلم الرصاص أو بالقلم الحبر الذي بهت بفعل الزمن والخط المهزوز.
معظم الأوراق فقدت
وبالنسبة إلى حزمة الأوراق هذه فلا بد وأنها كتبت في المساء في غرفة الفندق عندما كان يجلس ليسترجع إنطباعات اليوم كله. فكانت أحيانًا تكرارًا - مع تفصيل أكثر - لبعض ما ورد في الكراسات، وأحيانًا أخرى سردًا لحديث ما، كذلك الذي ورد على لسان مهندس قناة السويس، أو إحدى الدراسات المنفصلة، كالفصل الذي يتحدث عن المرأة في الشرق. وهي لذلك تبدو أكثر تماسكًا عن الملاحظات المدونة بالكراسات، لأنها تتبع خطًا موحدًا، وأحيانًا نجدها أقرب إلى شكل الفصل، وهي حلقات كاملة تم سردها بإتقان ولها مقدمة ووسط ونهاية. وأعتقد أن معظمها فقد لسوء الحظ، فبعد الخروج من القاهرة تنتهي المذكرات بطريقة مفاجئة، ولا نجد سوى نص هنا أو هناك، قليل القيمة، عن السويس أو عن فلسطين، وهو ما يرجح أن الرحلة قد وصفت بطريقة مفصلة من أولها وحتى آخرها. ولم يثمر البحث حتى الآن عن أى شيء ذي قيمة يحكي لنا بقية الرحلة، عدا كراستين، إحداهما عن فلسطين، والأخرى عن سوريا.
المذكرات تشع دفئًا وحركة ووفرة هائلة في التفاصيل والألوان والأضواء والأسلوب الذي يشع بنبض الأعصاب وتأجج المشاعر، والمشاهد التي ما زالت تملأ السمع والبصر. إن أسواق القاهرة وأضوائها وتلك الأغاني الصادرة من المشربيات في الليالي الساحرة لا يمكن أن توصف أبدًا من وحي الذاكرة في الطبقة الثالثة التي كان يقطن فيها في مدينة "روسيو" أو في غرفة مجلس إدارة مدينة "ليرية". إنها تنبض بالشعر والدفء والغبار ورائحة الشرق بين السطور وبين طيات الأوراق. أما باقي الرحلة فيأخذ شكل السباق، ففي أقل من ثلاثة أسابيع يطوف الرحالة بفلسطين ويهودية، ولبنان وجبال سوريا الوعرة. فتقل التعليقات وتتسارع الملحوظات والإنطباعات، ويتم تدوينها في مذكرات جيب صغيرة.
تناسق الحذف
ولفت جوزيه ماريا إلى أنه وجد نفسه أمام مخطوط بدا للوهلة الأولى فوضويًا وغير مكتمل أو منسقًا ومليئًا بالقصور والتكرار والحذف، إلا أن ما بقي منه كان ثريًا جدًا، وكانت المناظر المختلفة قد تكونت بصورة مؤكدة بالنسبة له إلى حد جعله يقرر التدخل في العمل بصورة أو بأخرى، رغم ما يفرضه ذلك من مسؤولية عليه، وكانت عملية التحقيق هذه مع أخيه ألبرتو بطيئة ومتعبة، وبعد شهور عدة من العمل وسط الخرائط وكتب الإرشاد السياحي ومكتبة كاملة عن الشرق، ومع صعوبة الكلمات العربية والتعبيرات المحلية والأسماء التاريخية بالنسبة إليهم، فإنه كلما أخذت الفصول مكانها الطبيعى بما يتفق مع التأشيرات الواردة في جواز السفر، كلما استطاعوا حذف بعض الأجزاء المكررة، وأخذت الرحلة شكلها المكتمل، وأصبح كل شيء متماسكًا ومتناسقًا.
وخلص إلى أن الفن التصويري الجمالي تمت صياغته هنا بإمتياز، فالعمل عبارة عن لوحات صغيرة متتالية من الزروع الكثيفة والمياه المتلألئة والصحراء بلونها البني والمناظر الشاحبة وتداخل الألوان والأضواء والأشكال، كل ذلك يملأ عيوننا بقوة الحقيقة الخلابة، ورأى أن الكتابة بهذا الأسلوب هي عبارة عن رسم، وكل كلمة لها قيمة النقش بالقلم نفسها التي تترك في أعيننا إنطباعًا يقارب إنطباعنا عن الأشكال الملموسة. إنه فن ينبض بالحياة والأحاسيس يلاطف أعيننا وأسماعنا وأنوفنا ويجعل الصفحات البيضاء تنبت بالمناظر المركزة للصحراء المعزولة بصورة سحرية تمتلئ بالألوان، ويغطيها ضوء الشمس، وصور من مدن الشرق القديمة الجميلة.