: آخر تحديث
تحولات مشهد الإسلامي السياسي تحت الضغط الأميركي الإقليمي:

عزلة الإخوان تصعد بالسلفية

3
2
2

لم يعد مشهد الإسلام السياسي في الشرق الأوسط يدور في فلك الصراع التقليدي بين السلطة والمعارضة فحسب، بل تحوّل إلى عملية هندسة اجتماعية وسياسية معقّدة، يشكّل التلويح المستمر بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية في الولايات المتحدة، وما رافقه من تصنيفات فعلية في دول إقليمية، نقطة ارتكاز محورية في إعادة تشكيل الخارطة الدينية. هذا الضغط لم يهدف فقط إلى تحجيم الجماعة، بل مهّد الطريق لتبادل أدوار تاريخية بين “الإسلام الحركي” (الإخوان) و“الإسلام النصي/المدخلي” (السلفية)، بما يخدم ديمومة “الجمهوريات الدكتاتورية” التي تبحث عن شرعية دينية لا تنازعها في الحكم.

إن وضع الإخوان المسلمين تحت مجهر الإرهاب، سواء عبر تشريعات أميركية فعلية أو عبر الضغط السياسي، أحدث زلزالاً في بنية الجماعة من خلال نزع الشرعية الدولية، إذ قدّم الإخوان أنفسهم للغرب تاريخياً كبديل معتدل عن “القاعدة” و“داعش”، وكجسر بين الديمقراطية والإسلام، لكن التصنيف، أو التهديد به، ينسف هذه السردية، محوّلاً الجماعة من “شريك محتمل” إلى “منبوذ دولي”، مما يقطع قنوات الاتصال الدبلوماسي ويجفّف منابع التمويل عبر الحدود. محلياً، يمنح هذا الغطاء الدولي الضوء الأخضر للأنظمة الحاكمة لتفكيك البنية التحتية الاجتماعية للجماعة (مدارس، مستشفيات، جمعيات خيرية)، وهذا “التجريف” يضرب الجماعة في مقتل، حيث كانت هذه الشبكات هي الرافد الأساسي لشعبيتها وتجنيد كوادرها. كما أن وضع الجماعة في خانة الإرهاب يدفع القواعد الشبابية المحبطة نحو خيارات راديكالية، وهذا سيغذّي السردية التي تقول بأن “الديمقراطية لا تعمل”، وهو ما قد يخلق بؤراً متطرفة جديدة تبرّر لاحقاً المزيد من القمع الأمني.

يمكن أن يسأل سائل: هل انتهى الإخوان؟ والجواب إن القول بأن الجماعة ستنحسر كلياً غير دقيق، لكننا أمام “انكماش هيكلي” واضح، من خلال فشل تجربة الحكم، خاصة في مصر وتونس، أي ضرب صورة “الكفاءة” التي روّجت لها الجماعة لعقود. كما أن الصراع الداخلي بين “الحرس القديم” والشباب حول إستراتيجيات المواجهة أدّى إلى تشرذم التنظيم. ومن ناحية أخرى، نجحت الأنظمة في “شيطنة” الجماعة إعلامياً، مستغلة أخطاء الإخوان السياسية والفساد المستشري بين قياداتها، مما قلّص الحاضنة الشعبية التي كانت ترى فيهم ضحايا في السابق. وبالرغم من الضربات الموجعة، يمتلك الإخوان قدرة عالية على “الكمون”، فالفكرة لا تموت بقرار إداري، والجماعة تتحوّل حالياً من تنظيم هرمي صلب إلى تيار فكري سائل، أو ما يُعرف بظاهرة “ما بعد الإسلاموية”، حيث يظل الأفراد يحملون الفكر دون الارتباط التنظيمي الخطير.

وهنا تكمن النقطة الجوهرية في التحليل، حيث مع انحسار الإخوان لم يختفِ الطلب المجتمعي على التدين، بل تم توجيهه نحو السلفية، وتحديداً السلفية العلمية والمدخلية، لعدة أسباب، منها أن الإخوان تنظيم يسعى إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع أو التغلغل في المجتمع، مما يجعله منافساً وجودياً للنظام السياسي. بالمقابل، السلفية التقليدية (الجامية/المدخلية) تؤمن بـ “طاعة ولي الأمر” وتحرّم الخروج عليه، مما يجعلها حليفاً مثالياً للأنظمة الجمهورية، فهي توفّر غطاءً دينياً للطاعة دون أن تطلب المشاركة في الحكم. ومن ناحية ثانية، يتم تقديم السلفية كنموذج يهتم بـ “إصلاح العقيدة” و“المظهر الإسلامي” بعيداً عن “السياسة”، وهذا يناسب الأنظمة التي تريد مجتمعاً متديناً محافظاً، لكنه سلبي سياسياً. ومن ناحية أخرى، سُمح للتيارات السلفية في بعض الدول كمصر وليبيا واليمن وسوريا بالسيطرة على المساجد والمنابر التي أُخليت من الإخوان، كنوع من “الإحلال الوظيفي” لملء الفراغ الروحي.

بالمقارنة بين البنية التنظيمية للإخوان المسلمين والسلفية، من حيث طبيعة البنية، فالإخوان عبارة عن تنظيم هرمي صلب، بينما السلفية عبارة عن تيار فكري شبكي سائل. أما من حيث الولاء الأساسي، فالإخوان بيعتهم التنظيمية للقائد العام “المرشد/المراقب” والجماعة نفسها، أما السلفية فالولاء العقدي للمنهج “السلف الصالح” والطاعة لولي الأمر “الحاكم”. أما من ناحية صنع القرار، فالإخوان قرارهم مركزي للغاية، يتم عبر المؤسسات العليا “مكتب الإرشاد، مجلس الشورى” وصولاً إلى الفرد، أما السلفية فالقرار لا مركزي، يعتمد على فتوى مرجع ديني نافذ، عالم معيّن أو مشيخة، في كل بلد. ومن ناحية الانتشار الجغرافي، فالإخوان لديهم فروع دولية تخضع لتنسيق شبه مركزي “التنظيم الدولي” بهدف التأثير السياسي العالمي، أما السلفية فهي تجمعات محلية تنمو حول علماء أو مدارس فكرية محددة، والولاء فيها “وطني/إقليمي” أكثر. ومن ناحية التمويل، يعتمد تنظيم الإخوان على الاقتصاد المنظّم “شركات، جمعيات خيرية، اشتراكات الأعضاء”، وتجميد الأصول مؤثّر جداً على التنظيم. أما من ناحية الهدف الأساسي، تعتمد جماعة الإخوان على “التمكين” والمشاركة في السلطة وإقامة الدولة الإسلامية عبر العمل السياسي المنظّم “الصناديق/الشارع”، وتعتمد السلفية على هدف أساسي هو الإصلاح الفردي والاجتماعي “العقدي” والابتعاد عن المنازعة السياسية بشكل صريح. أما من ناحية العلاقة مع الدولة، فالإخوان في صراع دائم “مقاومة أو مشاركة حذرة”، حيث ترى الجماعة نفسها بديلاً شرعياً أو منافساً للحكم، أما السلفية فتعتمد على التحالف الوظيفي أو التبعية الصريحة، حيث تقدّم الغطاء الشرعي للطاعة مقابل السماح لها بالنشاط الدعوي والتعليمي. أما نقطة ضعف جماعة الإخوان المسلمين فهي المركزية، وضرب القيادات العليا والتنظيم الهرمي يؤدّي إلى شلل الحركة، أما السلفية، ونتيجة السيولة وعدم وجود هيكل مركزي، فتكون عرضة للانقسام والتشرذم حول خلافات فقهية بسيطة.

يمكن أن نستنتج من هذه المقارنة أن بنية الإخوان الهرمية والمركزية تجعلهم أكثر كفاءة في التجنيد والتعبئة والحشد السياسي، وبالتالي فهم تهديد وجودي للأنظمة الدكتاتورية، أما بنية السلفية الشبكية اللامركزية وولاؤها العقدي للطاعة، فتجعلها مضاداً حيوياً آمناً تستخدمه الأنظمة لتحييد المعارضة الإسلامية، الإخوان، دون التنازل عن السلطة.

يعكس هذا التحوّل إستراتيجية إقليمية ودولية أوسع، من خلال تبنّي الأنظمة في المنطقة معادلة جديدة: “نحن نحارب الإرهاب (الإخوان) ونحمي الدين الصحيح (السلفية الموالية)”، وهذا يسمح للنظام بتقديم نفسه للغرب كشريك أمني لا غنى عنه، وللداخل كحامٍ لحمى الدين، متخلّصاً من صداع الديمقراطية التي كان الإخوان يرفعون شعارها.

أما من ناحية الموقف الدولي، نرى الغرب والولايات المتحدة تحديداً بات يميل إلى “الاستقرار السلطوي” على حساب “الفوضى الديمقراطية”، لذا هناك غضّ طرف عن صعود السلفية المتشددة اجتماعياً، ما دامت لا تشكّل تهديداً أمنياً عابراً للحدود، ولا تهدّد مصالح الطاقة أو إسرائيل، بعكس الإخوان الذين يحملون مشاريع سياسية قد تقلب موازين القوى الإقليمية. وبناءً على المعطيات الحالية، يمكن رسم ملامح المستقبل، حيث ستشهد المنطقة تزايداً في المظاهر الدينية السلفية، الشكلية والطقوسية، برعاية رسمية، مقابل انحسار في الفكر السياسي الإسلامي الحركي. وسيصبح الدين شأناً فردياً أو طقوسياً، وليس محرّكاً للتغيير السياسي. وبالمقابل، لن يعود الإخوان كتنظيم مركزي قوي كما كانوا، بل سيتحوّلون إلى مجموعات ضغط في المنفى، أو سيذوبون في أحزاب مدنية محافظة في محاولة للبقاء. ومن جهة أخرى، قد تواجه الأنظمة التي دعمت السلفية “انقلاب السحر على الساحر”، فالسلفية بطبعها تيار متشدّد عقائدياً، وإذا شعرت بتهديد لهويتها أو بضغط علماني مفرط من الأنظمة نفسها، قد تنشقّ منها تيارات جهادية، كما حدث تاريخياً، فالحدود بين السلفية العلمية والسلفية الجهادية رقيقة جداً وتعتمد على السياق.

خلاصة القول إن تصنيف الإخوان ومحاصرتهم ليس مجرد إجراء عقابي، بل هو جزء من عملية “إعادة هندسة الإسلام السياسي” في المنطقة، والهدف هو استبدال “إسلام سياسي منافس على السلطة” (الإخوان) بـ “إسلام وظيفي داعم للاستقرار” (السلفية). هذه المقايضة تضمن بقاء الأنظمة السلطوية، لكنها تخاطر بتجريف الحياة السياسية وخلق مجتمعات منغلقة فكرياً قد تنفجر في أي لحظة إذا اختلّت معادلة “الطاعة مقابل الحماية الدينية”.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.