في مقابلته الأحدث مع الإعلامي مارسيل غانم، صرّح وليد جنبلاط بأن سقوط الرئيس السوري بشار الأسد كان «انتصارًا لي ولسعد الحريري». هذه العبارة أثارت جدلًا واسعًا، لأنها لا تشير فقط إلى حدث سياسي معاصر، بل تقف على خلفية تاريخية عميقة من التدخلات والتوترات بين دمشق وبيروت، التي طالت شخصيات لبنانية بارزة، وتكشف عن صراعات طويلة المدى بين النفوذ السوري ومكوّنات السلطة اللبنانية.
لفهم هذا التصريح، لا بد من تحليل أبعاده الرمزية والسياسية والتاريخية، بدءًا من سجل الاغتيالات والاتهامات الموجّهة ضد النظام السوري تجاه أبرز قيادات لبنان، مرورًا بالضغط السياسي والطائفي الذي مارسه النظام على مختلف القوى اللبنانية.
شهد لبنان على مدى عقود تحكّمًا سوريًا في شؤونه الداخلية، من الوجود العسكري المباشر أثناء الحرب الأهلية، مرورًا بالهيمنة السياسية، وانتهاءً بالسيطرة شبه الكاملة على مفاصل الدولة حتى منتصف عام 2005. هذا النفوذ أثّر في مشاعر الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها جنبلاط، وكذلك في التيار السني الذي مثّلته عائلة الحريري.
شملت سلسلة التدخلات السورية ملفات حساسة، من بينها تشكيل الحكومات، وتأمين الحماية لبعض الأحزاب، وفرض وصاية سياسية على مؤسسات الدولة، ما ولّد شعورًا بالإحباط لدى القوى الوطنية المستقلة. في هذا الإطار، أصبح سقوط الأسد رمزًا لانتهاء فترة الوصاية السورية الطويلة التي كانت تتحكّم في القرار اللبناني الداخلي والخارجي.
في 14 شباط (فبراير) 2005، اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري بسيارة مفخخة في بيروت. في أعقاب هذه الجريمة، أشارت تحقيقات دولية أولية، وعلى رأسها تقرير ميليس، إلى وجود شبكة اتصالات بين شخصيات لبنانية وأخرى سورية في التوقيت المحيط بالجريمة، وهو ما دفع المحكمة الدولية لاحقًا إلى البحث عن دور النظام السوري في القضية.
وليـد جنبلاط صرّح في شهادته أمام المحكمة بأن تلاقي مصالح بشار الأسد ورئيس الجمهورية اللبناني السابق إميل لحود ساهم في اغتيال الحريري، مؤكدًا أن هذا الفعل شكّل محور صراع سياسي طويل، وأن العدالة الرمزية قد تتحقق بانحسار النفوذ السوري، حتى قبل العدالة القضائية الكاملة.
في عام 1977، تعرّض زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط للاغتيال، وهي حادثة تورّط فيها النظام السوري وفق الروايات السياسية اللبنانية، وقد أشار جنبلاط نفسه إلى مسؤولية النظام السوري عن وفاة والده.
تُفسّر هذه الواقعة لماذا يرى وليد جنبلاط سقوط الأسد ليس مجرد حدث سياسي، بل تحقيقًا لعدالة رمزية تعكس نهاية سلسلة من التدخلات المباشرة التي أثّرت في الأحداث المفصلية في تاريخ لبنان الحديث.
خلال الفترة التي سبقت وبعد اغتيال الحريري، استهدف مجهولون صحافيين وشخصيات معارضة، من بينهم جبران تويني وسمير قصير، اللذان كانا من أبرز المنتقدين للهيمنة السورية. الاتهامات في الإعلام والمواقف السياسية ربطت هذه الجرائم بما يُعرف بـ«بقايا النظام السوري في لبنان»، بالرغم من عدم صدور أدلة قضائية مستقلة تؤكّد ذلك.
هذه الاغتيالات أرخت بظلالها على الإعلام اللبناني وحرية الرأي، وزادت من شعور القوى الوطنية بأن استعادة استقلال القرار اللبناني تتطلب جهدًا مضاعفًا لمواجهة الهيمنة الخارجية.
عندما يقول جنبلاط إن سقوط الأسد كان انتصارًا شخصيًا له ولسعد الحريري، فهو لا يقصد نصرًا عسكريًا فحسب، بل يقصد العدالة الرمزية، أي الاعتراف بأن النفوذ السوري الذي طال لبنان لعقود بدأ يتراجع، وأن الضغوط التي سبّبت إرهابًا سياسيًا ضد شخصيات لبنانية بارزة لم تعد كما كانت.
العدالة الرمزية تتعلّق بالشعور بانتهاء حالة الهيمنة، واستعادة كرامة الدولة والقوى السياسية المستقلة.
أما العدالة القضائية فتتطلب تحقيقات مستقلة وأحكامًا نهائية، وهو ما لم يتحقق بعد في عدة ملفات اغتيال مرتبطة بتلك الحقبة.
انطلاقًا من هذه الخلفية المثقلة بالصراع، يصبح سقوط النفوذ السوري ليس مجرد نهاية لمرحلة، بل فرصة استراتيجية لقوى 14 آذار، التي كان يمثّلها الحريري، لاستعادة مساحة سياسية أوسع بعد سنوات من الضغط السوري على القرار اللبناني.
يبقى نجاح هذا التحول مرتبطًا بقدرة القوى الوطنية على استثمار الفراغ السياسي واستعادة مؤسسات الدولة بطريقة تعزّز سيادة لبنان واستقلاله، بعيدًا عن التبعية والوصاية الخارجية، مع الالتزام بالقوانين والمؤسسات لضمان استقرار طويل الأمد.
لا يمكن فهم تصريح جنبلاط بمعزل عن السياق الطائفي اللبناني، بشقي الطائفة الدرزية التي يمثّلها جنبلاط، والطائفة السنية التي يمثّلها تيار الحريري. فالتحالف الدرزي – السني في إطار 14 آذار كان جزءًا من مواجهة النفوذ السوري، وقد عبّرت عبارة «لي ولسعد الحريري» عن هذا التحالف التاريخي، مع التحذير من استغلال الانتصارات الرمزية لتعميق الانقسامات الطائفية إذا لم تُترجم إلى إصلاحات فعلية.
سقوط الأسد ليس فقط ضربة للنظام السوري، بل إعادة ترتيب للنفوذ الدولي والإقليمي في المنطقة. التغيّر في علاقة سوريا بإيران وروسيا والدول العربية ينعكس مباشرة على السياسات اللبنانية، ويطرح تحديات جديدة أمام وحدة القرار الوطني، ويزيد من أهمية اعتماد لبنان على مؤسسات قوية ومستقلة قادرة على مواجهة الضغوط الخارجية.
يُظهر تصريح وليد جنبلاط أنه يرى في سقوط نظام الأسد انتقالًا تاريخيًا يمس العدالة الرمزية والحقوق السياسية، لكنه يضع أيضًا أمام لبنان تحديًا أكبر: هل سيسعى إلى تحقيق العدالة العملية والاستقرار المؤسسي، أم سيبقى في دائرة الانقسامات والصراعات الطائفية؟
إن السقوط الرمزي لنظام كان له نفوذ واسع في لبنان ليس انتصارًا شخصيًا فحسب، بل إشارة إلى أن عهدًا من التدخلات الخارجية قد انتهى. وبينما يحتفي البعض بانحسار وصاية، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يملك لبنان، في عمق أزمته، القوة الداخلية لملء هذا الفراغ بذاته، أم أنه يستعد لاستقبال وصاية جديدة، وإن كانت بأسماء وأوجه مختلفة؟
القيمة الحقيقية لهذا الانتصار ستُقاس بمدى قدرة القوى اللبنانية على بناء نظام سياسي قوي، ينبذ الوصاية، ويحقق العدالة لجميع مواطنيه، ويضمن استقرار لبنان الداخلي والسياسي على المدى الطويل.


