اتخذ مجلس بلدية غلوغنيتز، وهي بلدة صغيرة في مقاطعة نيونكيرشن بالنمسا السفلى، قراراً لافتاً: إلغاء المواطنة الفخرية التي منحت لأدولف هتلر عام 1938 وظلت قائمة في السجلات الرسمية طوال سبعة وثمانين عاماً. القرار لم يكن لازماً من الناحية القانونية، فالمواطنة الفخرية تنتهي حكماً بوفاة المكرَّم، لكنه بدا ضرورياً من الناحية الأخلاقية والرمزية. كما قالت نائبة رئيس البلدية إينيس ووربس: "تنتهي المواطنة الفخرية تلقائيًا بوفاة الشخص. ومع ذلك، نريد أن ننأى بأنفسنا رمزيًا عن النظام النازي والفاشية النمساوية، ونضمن عدم وجود أي سوء فهم".
الخبر للوهلة الأولى يثير الدهشة وربما شيئاً من الطرافة: كيف تبقى بلدة أوروبية في القرن الحادي والعشرين مرتبطة على الورق بزعيم نازي مات منذ ثمانية عقود؟ لكنه أبعد من مجرد طرافة إدارية، إنه اختبار للذاكرة التاريخية. القضية لا تختزل في ورقة منسية بأرشيف محلي، بل في شبكة كاملة من النسيان والصمت، ومن الرغبة المتأخرة في تطهير السجلات من رموز شمولية.
النقاش في غلوغنيتز أظهر أيضاً مفارقة قانونية: هل تسقط المواطنة الفخرية تلقائياً بوفاة صاحبها، أم أن الإلغاء الصريح يظل مطلوباً؟ الخلاف لم يكن حول حرفية نص قانوني فقط، بل حول معنى الفعل السياسي أمام الذاكرة. بعض البلديات اكتفت بالقول إن الصفة انتهت منذ وفاة هتلر، بينما فضلت أخرى الإعلان العلني عن الإلغاء باعتباره رسالة أخلاقية. هنا لم تعد المسألة شأناً إدارياً محضاً، بل موقفاً يتجاوز القانون إلى المجال الرمزي والأخلاقي.
النمسا، كما هو معروف، اعتبرت نفسها طويلاً "الضحية الأولى" حين ضمها هتلر إلى الرايخ عام 1938، متجاهلة أن جزءاً كبيراً من مجتمعها شارك بحماس في المشروع النازي. الأمر لم يكن غزواً يفرض من الخارج فحسب، بل تجربة داخلية وجدت تأييداً واسعاً. ومن هذه الزاوية، فإن اكتشاف بلدة مثل غلوغنيتز أن سجلاتها ما زالت تحمل تكريماً رسمياً لهتلر يكشف أن النسيان لم يكن عفوياً، بل أقرب إلى تهرّب من مواجهة الماضي.
وليس المثال محصوراً بهذه البلدة وحدها. ففي كرامساخ بولاية تيرول، لم تُلغَ مواطنة هتلر الفخرية إلا بعد جدل عام وضغط اجتماعي قاد إلى قرار واضح، عُدّ وقتها تعبيراً عن الاحترام لضحايا النازية. وعلى المنوال نفسه، لم تتخلص بلديات أخرى من هذا الإرث إلا بعد عقود، وغالباً إثر نقاشات محتدمة داخل المجالس المحلية. وهذا كله يشير إلى أن ما يجري ليس استثناءً، بل جزء من معركة أوسع تخوضها الذاكرة الأوروبية مع أشباح القرن العشرين.
المقارنة مع أوروبا الأخرى تزيد الصورة وضوحاً: في ألمانيا أزيلت أسماء شوارع ارتبطت بالنازية، وفي إيطاليا ما زال الجدل محتدماً حول رموز موسوليني، وفي إسبانيا لم يُنقل رفات فرانكو من ضريحه إلا قبل سنوات قليلة. القرارات هنا لا تقتصر على تصحيح شكلي متأخر، بل تكشف أن الذاكرة عملية مفتوحة، يعاد ترتيبها باستمرار وفق مقتضيات الحاضر.
المدن الكبرى تبني متاحف ونصباً ضخمة، بينما القرى والبلدات تواجه الماضي في تفاصيل أكثر حميمية: لوحة حجرية هنا، لقب فخري هناك، اسم شارع في زاوية بعيدة. ما جرى في غلوغنيتز يعيد التذكير بأن النازية لم تكن مشروعاً بعيداً عن الحياة اليومية، بل أثراً امتد حتى إلى أصغر المجالس المحلية. ومن هنا تأتي أهمية الخطوات الرمزية التي تقطع الخيط الذي ربط المكان بالشمولية.
قرار الإلغاء يذكرنا بأن التاريخ لا يمّحي بمجرد رحيل أصحابه. الشر لا يذوب تلقائياً بمرور العقود، بل يبقى كامناً في السجلات والوثائق والذاكرة الجمعية. ولهذا يبدو الإلغاء العلني أكثر من مجرد محو إداري، إنه إعلان بأن مواجهة الماضي ليست مهمة تنجز مرة واحدة، بل مسار طويل يتجدد مع كل جيل.
حين نقرأ اليوم عبارة مثل "الآن فقط! هتلر لم يعد مواطناً فخرياً هنا"، قد نبتسم ساخرين، لكن خلف الابتسامة يظل السؤال قائماً: كيف يمكن لمجتمع أن يعيش عقوداً وهو يحتفظ في مؤسساته بآثار تكريم لشمولية قاتلة؟ الجواب لا يأتي من النصوص القانونية وحدها، بل من الممارسات الرمزية التي تعلن بوضوح أن الصمت لم يعد خياراً، وأنَّ الذاكرة لا تُصان إلا بالفعل.


