: آخر تحديث

من القومية إلى الوطنية: مسار الشوفينية في العالم العربي

3
3
2

على امتداد التاريخ، كلّما تراجع الوعي النقدي اتّسع الميل إلى تمجيد الجماعة بوصفها ملاذًا نفسيًا وسياسيًا.

لم تكن الشوفينية شعورًا طبيعيًا بالانتماء، بل مبالغةً مرضيّةً في تمجيد الذات الجماعية إلى حدّ احتقار الآخر وإقصائه. وقد تجلّت في التجربة العربية أولًا بصورةٍ قوميةٍ وحدويةٍ مع صعود الضباط الأحرار في مصر عام 1952. ومع تراكم الإخفاقات السياسية والعسكرية، تمترس الخطاب داخل شوفينيةٍ وطنيةٍ تستحضر التاريخ لتعويض الانحدار في جميع المجالات، منتقلًا من القومية الجامعة إلى الوطنية الانعزالية.

تاريخيًا، بعد هزيمة نابليون في واترلو عام 1815، شاع استخدام مصطلح «الشوفينية» في فرنسا للدلالة على وطنيةٍ مفرطةٍ تمجّد الحرب والأمة بلا حدود. وقد رسّخته مسرحية La Cocarde Tricolore (1831) التي قدّمت شخصية «شوفان»، البونابرتيّ أعمى الولاء، فغدا اسمه رمزًا للتعصّب القومي الأخرس. ومن هذه السردية المبكرة يمكن فهم كيف يتغذّى الخطاب الشوفيني على جراح الهزيمة وحاجةٍ رمزيةٍ إلى استعادة المجد، قبل أن يُعاد إنتاجه في ثقافاتٍ ومجتمعاتٍ أخرى بأسماءٍ مختلفة.

تمدّد المفهوم مع تزاوج القومية بالعسكرة، حين تحوّل الولاء الوطني من شعورٍ بالانتماء إلى أداةٍ للتعبئة والهيمنة السياسية، وبلغ أقصى تجلّياته في الفاشية والنازية. وبعد الحرب العالمية الثانية، أطلقت حركات التحرر في آسيا وأفريقيا موجاتٍ قوميةً جديدة انزلق بعضها إلى الإقصاء والسلطوية. وهكذا تزدهر الشوفينية كلما اضطربت السياسة واختلّ الاقتصاد، بوصفها تعويضًا رمزيًا عن الهشاشة.

وفي العالم العربي، أعادت ثورة يوليو في مصر صياغة الهوية داخل قالبٍ قوميٍّ عسكريٍّ بدا وحدويًا في خطابه، لكنه رسّخ مركزية مصر باعتبارها «قلب العروبة النابض». وساعد الإعلام الناصري، ولا سيما صوت العرب وخطابات عبدالناصر، على نشر هذا الوعي الجديد في المخيال العربي.

اتّسمت الشوفينية المصرية بحدةٍ خاصة، إذ تشكّلت مصر منذ القرن التاسع عشر مركزًا حضاريًا بفضل موقعها وارتباطها بالإدارة الاستعمارية. وبعد الثورة، تحوّل المشروع السياسي إلى خطابٍ تعبويٍّ يقوده العسكر، لكنه لم يفضِ إلى نهوضٍ اقتصاديٍّ أو ثقافيٍّ حقيقي. فقد بدأت البنية الاقتصادية في التراجع، وتضاءل الإنتاج الثقافي الحر لصالح إعلامٍ موجَّهٍ يعيد إنتاج صورةٍ متخيَّلةٍ عن تفوّق مصر، حتى بدا وكأنه يخاطب ذاته. وكلّما ازداد الواقع ضعفًا، ازداد تمجيد الذات حضورًا في المنصّات الرسمية وغير الرسمية.

ومع فشل المشروع القومي، لم يتراجع الخطاب الشوفيني بل غيّر جلده؛ فحلّت القومية المصرية محلّ العروبة الجامعة، مستدعِيةً سردية «السبعة آلاف سنة» لتأكيد التفرد وتعويض الانكفاء السياسي. غير أنّ المفارقة قائمة: فالمصريون المعاصرون يختلفون عن الفراعنة في اللغة والدين وأنماط الحياة، ما يجعل استدعاء الهوية الفرعونية رمزيًا أكثر من كونه امتدادًا فعليًا. إذ تتشكّل هويتهم من تراكمٍ تاريخيٍّ طويل تعاقبت خلاله الهجرات والاحتلالات منذ عصور ما قبل الإسلام، فتكوَّن مجتمعٌ متنوّع الأعراق والثقافات. غير أنّ الثقافة العربية الإسلامية، التي ترسّخت منذ القرن السابع الميلادي، تركت أعمق أثرٍ في الوجدان واللغة والنظام الاجتماعي، فظلّت المكوّن الأعمق تجذّرًا واستمرارًا بالرغم من الاحتلالات اللاحقة. أما الدراسات الجينية عن مصر القديمة فما تزال محدودة ولا تكفي لتأسيس روايةٍ قاطعةٍ عن الأصل العِرقي؛ فالهويّة المصرية، مثل معظم الهويات في الممرات الحضارية الكبرى، هي حصيلةُ تفاعلٍ متواصلٍ بين الأرض والناس والهجرات والثقافة، لا الجينات وحدها.

ومع ذلك، تكشف المقارنة مع دولٍ أخرى أن طول التاريخ لا يضمن النهضة؛ فثمة دول حديثة التكوين كالولايات المتحدة، التي لا يزيد عمرها على 250 سنة، بلغت ما لم تبلغه حضاراتٌ تمتدّ لآلاف السنين، لا بطول التاريخ بل بفاعلية الإنسان وإصلاح حاضره. وهكذا انتقلت الشوفينية المصرية من قوميةٍ وحدويةٍ إلى وطنيةٍ انعزاليةٍ تبني هويةً متخيَّلة، تستدعي الماضي لترميم مأزق الحاضر.

ولم يقتصر أثر الخطاب القومي على مصر؛ إذ تمدّد إلى بلاد الشام حيث رأت الأحزاب القومية والشيوعية نفسها حاملةً لمشروع النهضة والوحدة. وبرز خطابٌ شوفينيٌّ مضادٌّ للأنظمة الخليجية، يصوّر مجتمعاتها البدوية وثرواتها النفطية كـ«ملكٍ للأمة». ومع تصاعده في الستينيات والسبعينيات، تحوّل الجدل من نقدٍ سياسي إلى نزاعٍ رمزيٍّ حول الثروة والمعنى، وانطوى على تمييزٍ ثقافي–طبقيٍ يرى في بلاد الشام مركزًا للفكر والقيادة، وفي الخليج فضاءً للاستهلاك. ويكشف هذا الخطاب عن نزعةٍ نفسيةٍ تُعيد إنتاج تمايزٍ ثقافيٍّ متخفٍّ وراء شعارات الوحدة والتحرر.

في المقابل، لم تتأثر المجتمعات الخليجية حتى نهاية القرن العشرين بخطابٍ قوميٍّ مماثل، إذ هيمنت البنية القبلية–الدينية على وعيها الجمعي. ومع صعود المدّ الناصري، واجهت الحكومات الخليجية، خاصة السعودية، الخطاب القومي ذي النبرة الاستعلائية بسياساتٍ إعلاميةٍ ودبلوماسيةٍ وعسكريةٍ حدّت من تأثيره. أمّا الشعوب فظلت متسامحة، تقدّم الدعم للعرب بدافع التضامن لا المزايدة. لكن العقد الأخير شهد تحوّلًا مع انفجار وسائل التواصل؛ إذ ظهرت حملاتٌ متبادلة كشفت أن الشوفينية لم تكن حكرًا على النخب، بل متجذّرة في ثقافاتٍ شعبيةٍ توارثت نظراتٍ استعلائيةً، إضافةً إلى حملاتٍ إلكترونيةٍ غذّتها حساباتٌ مجهولةٌ أو خارجية، هدفها تأجيج الفتنة بين الشعوب.

أما الشوفينية الخليجية، ولا سيما السعودية، فليست متوارثة ولا أصيلة في الوعي الجمعي، بل نشأت كردّ فعلٍ دفاعيٍّ على عقودٍ من الخطاب الاستعلائي الصادر عن بعض النخب أو الشعوب. ومع أن السعودية، شعبًا وحكومة، ظلّت لعقود الداعم الأبرز للقضايا العربية – من حملات التبرعات إلى دعم فلسطين وإنقاذ الاقتصادات – فإنّ الجيل الخليجي الجديد رآها تعبيرًا عن ضيقٍ متراكمٍ من الإساءة، لا عن عداءٍ أصيل.

أخيراً، تُظهر التجربة العربية أن الشوفينية لم تكن طريقًا للنهضة، بل تعويضًا رمزيًا عن التراجع؛ فكلما اشتدت الأزمات، انكمش الانفتاح وضاق الأفق. والحلّ لا يكمن في اجترار الماضي أو صناعة هوياتٍ متخيلة، بل في بناء وطنيةٍ مدنيةٍ حديثةٍ قائمةٍ على المواطنة المتساوية، والإصلاح المؤسسي، والانفتاح الثقافي الذي يفكك الصور النمطية ويعزّز الصحة النفسية والاجتماعية للشعوب، بما يجعل من حبّ الوطن ركيزةً للتقدّم وجسرًا للتعاون العربي والعالمي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.