: آخر تحديث

بيروت مدينة الإبداع الأدبي

3
3
3

بيروت ليست مجرد مدينة عربية تُذكر على خارطة الشرق الأوسط، بل هي حاضنة حيوية للتبادل الثقافي والإبداع الأدبي. ففي عام 2019، أعلنت اليونسكو اعتماد بيروت ضمن شبكتها "مدن مبدعة في الأدب"، تكريماً لدورها التاريخي في حركة النشر والترجمة والكتابة (UNESCO, 2019). هذا الاعتراف الدولي ليس مجرد شهادة رمزية، بل يعكس تاريخاً طويلاً من التفاعل بين المكان والكتابة، وبين التراث والمعاصرة، ضمن شبكة عالمية من العقول والناشرين والقرّاء.

بيروت والنشر
منذ عقود، ظلت بيروت مركزاً رئيسياً للنشر والتوزيع في العالم العربي. وفق اليونسكو، كانت المدينة جسراً للمعرفة والكتب ومكاناً احتضن أجيالاً من الكتّاب والناشرين والمترجمين (UNESCO, 2019). المجلات الأدبية التي وُلدت في المدينة وصقلت الوعي الحداثي – مثل مجلة "الأديب" (تأسست عام 1942) ومجلة "شِعر" التي امتدت بين 1957 و1970 وأسّسها أدونيس ويوسف الخال – شكّلت واجهات للحداثة الشعرية العربية، وأنتجت فضاءات للكتابة والتجديد.

بهذا المعنى، لم تكن بيروت مجرد جغرافيا، بل فضاء فكري حرّ يتيح للأدباء التعبير والنشر، ويدفع نحو حركة تبادل ثقافي بين العرب والعالم.

الاعتراف الدولي
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، أصبحت بيروت عضواً في شبكة المدن الإبداعية للأدب التابعة لليونسكو (theliberum.com, 2019). الوثيقة الرسمية تشير إلى أنَّ المدينة لعبت دوراً قيادياً في نشر الكتب وترجمتها وتنظيم معارض الكتب، واستقطبت أدباء وشعراء من مختلف الأقطار العربية. كما تُشير التقارير إلى أن نحو 90 بالمئة من العرض الثقافي في مجال الأدب في لبنان يتركّز في بيروت.

هذا الاعتراف ليس محطة تاريخية فقط، بل مؤشر على قدرة المدينة في بناء جسور معرفية وترويج الإبداع العربي عالمياً.

معارض الكتب
المشهد البيروتي يعزّز وجوده من خلال معارض الكتب والأنشطة الأدبية المستدامة. المعرض العربي للكتاب في بيروت يجذب نحو 35 ألف زائر سنوياً ويضم نحو 170 دار نشر (UNESCO, 2019). كما يُعدّ معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت الأكبر خارج فرنسا.

تدير البلدية برامج دعم للمؤسسات الثقافية والكتّاب، وتمنح منحاً للمهرجانات والمعارض والكتب، ما يجعل بيروت منصة إنتاجية وليست مجرد مستهلكة للثقافة.

ظهرت أيضًا مبادرات حديثة مثل "كتاب في دقائق" و"مكتبة على الهواء" التي تتيح للقراء التفاعل مع الكتب في الفضاء العام، مما يعكس قدرة بيروت على الابتكار والمحافظة على نبض الإبداع (beirut.com, 2021).

الأدب والحياة
بيروت ليست مجرد خلفية سردية في الأعمال الأدبية، بل شخصية حيّة في الأدب العربي المعاصر. المدينة تؤسس “حكاية من داخلها”، وتساهم في تشكيل هوية الصورة الأدبية اللبنانية والعربية.

في الرواية اللبنانية الحديثة، تظهر بيروت كفضاء مركّب يجمع بين الإيقاعات الواقعية للحياة اليومية والحروب والهويات المتقاطعة. رواية طواحين بيروت لتوفيق يوسف عوّاد رسمت صورة المدينة المضطربة كمكان للصراع والتغيير (theweek.in, 2020).

أدب بيروت يفتح باباً نحو “بيروت المتخيّلة” حيث الهوية والذاكرة والبحث عن معنى الحياة تتقاطع وتتفاعل.

ومن الأسماء المعاصرة التي تعكس نبض المدينة: إلياس خوري، هدى بركات، وجبور الدويهي، الذين يوثقون التحولات الاجتماعية والسياسية وينقلون صوت بيروت عالميًا.

التحديات
رغم الحضور الثقافي القوي، تواجه بيروت أزمات بنيوية واقتصادية وصحية أثّرت في الزمن الأدبي والثقافي. أغلقت العديد من المكتبات المستقلة أبوابها بسبب الضغوط الاقتصادية، مثل مكتبة "العاليّة" التي تأسست في 2016.

كان لانفجار مرفأ بيروت وتداعيات جائحة كورونا آثار عميقة على تنظيم الفعاليات، توزيع الكتب، والقدرة الشرائية للمستهلكين (UNESCO, 2021).

كما تؤكد التقارير الحديثة أن قطاع الثقافة يحتاج إلى دعم وسياسات أكثر اتساقاً مع واقع المدينة وتعقيداتها (UNESCO, 2021).

التحديات لا تلغي الحيوية الإبداعية، لكنها تستدعي إعادة النظر في شبكات الدعم واستدامة المشهد الثقافي.

الأمل
يظل المشهد البيروتي علامة أمل في زمن التحول الشامل. بفضل تصنيفها ضمن “مدن مبدِعة للأدب”، تعمل بيروت على مشاريع لدعم الوصول إلى الأدب وتوسيع آفاق الترجمة والتبادل الثقافي.

المبادرات الصغيرة من مكتبات مستقلة ومقاهي أدبية وورش كتابة تشكّل شبكات بديلة تحافظ على النبض الإبداعي وتتيح فرصاً للكتّاب والقراء على حد سواء.

إنها رسالة مفادها أن الأدب ليس رفاهية في زمن الأزمات، بل ضرورة للحفاظ على الهوية والحرية والتقدّم الثقافي. المبادرات الحديثة والمكتبات المتنقلة تضمن استمرار حضور الأدب في الحياة اليومية، مع تعزيز التفاعل المباشر بين الكاتب والقارئ.

الخاتمة
تبقى بيروت رغم الجراح كاتبة فصلها الجديد بأقلام أبنائها، تثبت أن المدينة التي تقرأ وتكتب لا تُهزم، بل تخلق من الأزمات قصائدَ مقاومة.

هي مدينة تعيد كتابة نفسها باستمرار، وتُعيد تشكيل المشهد الثقافي في زمن التحولات. ليست تراثاً محفوظاً في متاحف الذاكرة فحسب، بل حاضنة للإبداع المستمر ومكان يكتب فيه القرّاء والكتّاب تاريخاً مشتركاً. اليوم، بيروت مدينة تكتب وتقرأ وتصدر الأفكار، مدينة تُنشئ مساحات للحوار وتفتح أبواباً أمام التبادل الثقافي العربي‑العالمي، داعية إلى قراءة أوسع وأفقٍ أرحب للفكر والفن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.