بينما تتنافس الأمم على بناء المدن الذكية وإطلاق الأقمار الاصطناعية، تجد إثيوبيا، واحدة من أسرع اقتصادات أفريقيا نمواً، نفسها في معركة وجودية مختلفة تماماً، معركة للوصول إلى البحر. إنها ليست مجرد قضية حدود سياسية، بل معادلة اقتصادية مصيرية تتحكم في حاضر 120 مليون إثيوبي ومستقبلهم. فكيف يمكن لدولة بهذا الحجم وهذه الطموحات أن تظل سجينة الجغرافيا؟ ولماذا يصر رئيس وزرائها على أن الوصول إلى البحر الأحمر أصبح مسألة حياة أو موت؟
في عصر العولمة، حيث تتحكم الموانئ والطرق البحرية في مصير الاقتصادات، تقدم لنا إثيوبيا حالة فريدة لدولة عظيمة تبحث عن تنفسها في عالم لا يرحم الدول الحبيسة. هذه ليست مجرد قضية سياسية عابرة، بل هي قصة كفاح اقتصادي يمس كل مواطن إثيوبي، من التاجر في أديس أبابا إلى المزارع في الأرياف. قصة تثبت أن في عصرنا هذا، أن تكون بلا منفذ بحري يعني أن تكون بلا صوت في السيمفونية الاقتصادية العالمية. فهل تستطيع إثيوبيا كسر القيود التي فرضتها عليها الجغرافيا؟ وكيف سترد دول الجوار على هذه المطالب التي تمس شرايين اقتصاداتها؟ الإجابة ربما تحدد مصير القرن الأفريقي بأكمله.
يشكل التصريح الأخير لرئيس وزراء إثيوبيا حول الوصول إلى البحر الأحمر نقلة نوعية في السياسة الاقتصادية الإقليمية، حيث يحول قضية كانت تُدار عبر قنوات دبلوماسية هادئة إلى مشروع استراتيجي مفتوح ذي أولوية قصوى. لا يمكن فهم حماسة الموقف الإثيوبي بمعزل عن الحسابات الاقتصادية البحتة، فإثيوبيا تجد نفسها مقيدة بعامل جيوسياسي واحد هو انعدام المنفذ البحري المباشر. هذه القيود تتحول إلى تكاليف باهظة تضغط يومياً على الميزان التجاري، حيث أصبحت إثيوبيا رهينة للرسوم المتزايدة والخدمات اللوجستية المعقدة في ميناء جيبوتي، الذي يستقبل أكثر من 95 بالمئة من تجارتها الخارجية. هذه التكاليف لا تمثل مجرد مصاريف إضافية، بل هي ضريبة غير مرئية على التنمية، تثقل كاهل الصادرات والواردات على حد سواء، وتحد من القدرة التنافسية للصناعات الناشئة.
في السياق الاقتصادي الكلي، يتحول هذا الاعتماد الخارجي إلى تهديد للسيادة الاقتصادية. فالقدرة على التحكم في سلاسل التوريد وتكاليفها ليست مجرد مسألة ربحية، بل هي مسألة أمن قومي في عصر العولمة. أي اضطراب في العلاقات السياسية مع الجوار، أو أي أزمة في الخدمات اللوجستية في الموانئ المعتمدة، يمكن أن يشل حركة الاقتصاد الإثيوبي بين ليلة وضحاها. هذا الوضع الهش هو ما يفسر وصف آبي أحمد للمسألة بأنها "وجودية"، فهي تتعلق بقدرة الدولة على ضمان استمرار تدفق السلع الأساسية والطاقة والمواد الخام لشعبها وصناعاتها دون عوائق. إن الاعتماد شبه الكلي على ممر بحري واحد يجعل خطة التحول الاقتصادي الطموحة التي تتبناها أديس أبابا عرضة لمخاطر خارجية لا تستطيع السيطرة عليها.
من ناحية أخرى، فإن السعي للحصول على منفذ بحري لا ينفصل عن الرؤية الاقتصادية الطموحة لإثيوبيا كقوة إقليمية صاعدة. فالسيطرة على منفذ بحري، ولو جزئياً، لن توفر فقط مليارات الدولارات من الرسوم السنوية، بل ستمنحها نافذة استراتيجية على أحد أهم الممرات البحرية في العالم وهو البحر الأحمر. هذا الوضع الجيو-اقتصادي سيمكنها من جذب الاستثمارات في القطاعات اللوجستية والصناعية، وتحويل نفسها إلى مركز إقليمي للتجارة والخدمات. كما سيمكنها من بناء قوة بحرية رمزية على الأقل، تحمي مصالحها التجارية وتوازن من اعتمادها العسكري على الخارج أيضاً.
لكن الطريق نحو تحقيق هذا الحلم الاقتصادي محفوف بتحديات جيوسياسية هائلة. فالمحيط الإقليمي يبدو متوجساً، حيث ترفض إريتريا أي حديث عن التنازل عن سيادتها، وتتمسك جيبوتي بميزتها التنافسية كمخرج بحري وحيد لإثيوبيا. كما أن أي محاولة للتفاوض مع الصومال للحصول على منفذ ستصطدم بحساسية السيادة الشديدة. لذلك، فإن الخيارات الاقتصادية المتاحة أمام إثيوبيا تتأرجح بين الاستمرار في تحمل التكاليف الباهظة للوضع الحالي، أو المغامرة في استثمارات دبلوماسية وسياسية كبيرة قد تصل إلى حد دفع تعويضات أو تقديم حزم استثمارية ضخمة للدول المجاورة مقابل الحصول على حقوق ميناء.
التصريح الإثيوبي يمثل نقطة تحول في الاقتصاد السياسي للمنطقة. فهو ليس مجرد خطاب قومي حماسي، بل هو إعلان عن نية تحويل الخريطة الاقتصادية الإقليمية. النجاح في هذا المسعى سيفتح آفاقاً جديدة للنمو والاستقلال الاقتصادي، بينما الفشل قد يدفع بالمنطقة إلى دوامة من التوتر تعيق التكامل الاقتصادي الإقليمي الذي تحتاجه دول القرن الأفريقي أكثر من أي وقت مضى. المعادلة صعبة، لكنها تعكس حقيقة اقتصادية لا مفر منها، فالدول الكبرى لا يمكنها أن تظل حبيسة الجغرافيا إلى الأبد.


