: آخر تحديث
سماسرة الأزمة:

عندما يتحول الغاز والدقيق إلى رهان سياسي في غزة

2
2
3

في أتون حرب لا ترحم ودمار شامل يلف قطاع غزة من أقصاه إلى أقصاه، تبرز مأساة أخرى لا تقل قسوة عن القصف، مأساة تتصل باستغلال الحاجة الإنسانية وتحويل سلع البقاء الأساسية إلى أوراق تفاوض أو، ما هو أسوأ، إلى مكاسب مادية وسياسية في سوق سوداء تُلهب أسعارها ظهر المواطن المكلوم. إن المشهد في غزة اليوم لا يتوقف عند جبهات القتال أو طاولات المفاوضات الإقليمية، بل يمتد إلى طوابير الخبز وأنابيب الغاز التي أصبحت، وفقًا لتقارير حديثة، خاضعة لسيطرة تامة تُدار بأيادٍ غير رسمية.

إنَّ آخر تطورات الحرب الإسرائيلية الفلسطينية تظهر استمرار دورة العنف غير المستقرة، حيث إن عودة القصف الإسرائيلي بالأمس في خرق واضح لأي تفاهمات هشة، تذكّرنا بأن الوضع الأمني لا يزال على حافة الهاوية. بالتوازي، تستمر الجهود لوقف دائم لإطلاق النار وإدخال المساعدات، لكن هذه الجهود تصطدم دائمًا بـ"فجوة الثقة" بين الأطراف، وفجوة أعمق تتعلق بآليات توزيع المساعدات وإدارتها داخل القطاع.

تكشف التقارير القادمة من داخل غزة عن ممارسات لا يمكن السكوت عنها، تتعلق بسيطرة حركة حماس على تدفق بعض الإمدادات الحيوية، وأبرزها إمدادات الغاز المنزلي، وتحويل مسارها إلى سوق سوداء تحتكر التوزيع. فبدلاً من أن يصل الغاز بأسعار معقولة ومنظمة إلى كل بيت منكوب، يتم توزيعه بشكل شبه حصري على شبكات تابعة للحركة أو مقربين منها، ليقوم هؤلاء ببيعه للمدنيين بأسعار مبالغ فيها، مستغلين ندرة هذه المادة الأساسية في ظل الحصار والدمار.

هذا النمط من الاستغلال لا يقتصر على الغاز فحسب، بل يمتد ليشمل مواد غذائية أساسية مثل أكياس الدقيق والمنتجات المجمدة، التي يُفترض أن تصل للمتضررين كمساعدات إنسانية أو بتكاليف مدعومة. إن تحويل هذه السلع من مسارها الإنساني إلى آلة لجمع المال وتحقيق مكاسب سياسية يُعدّ إجحافًا مضاعفًا بحق السكان الذين فقدوا كل شيء.

اللجنة الاقتصادية في قطاع غزة عبرت، في أكثر من مناسبة، عن قلقها البالغ إزاء هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار، مشيرة بوضوح إلى أن هذه السلوكيات الاحتكارية وغير المسؤولة هي السبب الرئيسي في تفاقم الأزمة المعيشية. إن استغلال الأزمة الإنسانية لتحقيق "تمويل ذاتي" أو تعزيز نفوذ سياسي في الشارع، هو بمثابة طعن لجهود الصمود والمقاومة نفسها.

في هذا الصدد، يجب التأكيد على أن وظيفة المقاومة هي بالأساس الدفاع عن الشعب وحماية مصالحه. ولا يمكن لحركة تقود مشروع المقاومة أن تسمح أو تغض الطرف عن ممارسات تزيد من بؤس الشعب الذي تدّعي تمثيله والدفاع عنه. إن هذه التصرفات، لا تُضعف فقط ثقة الشارع في قيادته، بل تمنح خصوم القضية ذريعة لضرب الموقف الفلسطيني الموحد وتقويض أي جهد دولي لإعادة الإعمار.

فالمجتمع الدولي الذي يُحاول الضغط لإدخال المزيد من المساعدات عبر مفاوضات شرم الشيخ أو غيرها، يبحث عن ضمانات بأن هذه المساعدات ستصل إلى مستحقيها بإنصاف وشفافية. عندما تكشف التقارير عن تحويل هذه الإمدادات إلى أداة للإثراء غير المشروع أو التوزيع على أساس الولاء، فإن ذلك يخدم بشكل مباشر الرواية الإسرائيلية التي تسعى لتعطيل الإعمار.

إن إدارة الإمدادات والمساعدات في أوقات الكوارث والحرب يجب أن تكون بمنأى عن أي اعتبارات فئوية أو حزبية. على حماس، بوصفها القوة المسيطرة فعليًا في القطاع، أن تدرك أن واجبها الأول يقتضي ضمان توزيع عادل وشفاف للغاز والدقيق والدواء، حتى لو تطلب الأمر تشكيل لجنة طوارئ مستقلة ومهنية تشرف على العملية بالكامل.

في النهاية، لا يمكن لأي مقاومة أن تستمر أو تنجح وهي تخوض معركة مزدوجة: ضد العدو في الخارج، وضد الفقر والجشع والاحتجاز الداخلي لموارد الحياة. إن البقاء على قيد الحياة بكرامة هو جزء أصيل من الصمود، ومنع استغلال معاناة الناس في أشد أوقاتهم حاجة هو مسؤولية تاريخية لا تسقط بالتقادم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.