: آخر تحديث

لبنان في مواجهة الحقيقة: جُبن السلطة أخطر من أي سلاح

1
1
0

لا تُعَد زيارة المبعوثة الأميركية مورغان أورتيغوس الأخيرة إلى بيروت، ولا التحرك المصري الرفيع المستوى، جزءاً من بروتوكول دبلوماسي اعتيادي. إنهما رسائل إنذار واضحة وعَلنية موجهة إلى طبقة سياسية تظن أن بوسعها الاستمرار في لعبة إضاعة الوقت. لبنان لا يواجه اليوم خطراً عسكرياً خارجياً فقط، بل أزمة قرار داخلي. فالعالم من حوله يتغير بسرعة، بينما السلطة لا تزال قابعة حيث كانت تقف منذ عقود، تتلعثم أمام كل استحقاق وتختبئ خلف الشعارات.

لم تأتِ التحذيرات الأميركية والمصرية من فراغ، بل هي ناتجة عن قراءة دقيقة لوضع لبنان المأزوم بسبب التردد والإنكار. أما التهدئة على الحدود مع إسرائيل فهَشة، وحزب الله ينقل سلاحه مجدداً عبر ممرات من سوريا ويعيد بناء بنيته العسكرية. لقد وَقعت الدولة على قرار نزع السلاح في الخامس من أغسطس، وها هي تتصرف وكأنها أنجزت مهمة تحرير القرار الوطني. لا يوجد آلية أو خطة للتنفيذ ولا حتى جرأة على حد سواء. وبالتالي، تحولت السيادة إلى ورقة معلّقة على الجدران بينما السلاح غير الشرعي يقرر إيقاع البلد.

الأخطر أنَّ سلاح حزب الله لم يعد الاستثناء الوحيد. فحادثة مقتل الشاب إيليو أبو حنّا عند مدخل مخيم شاتيلا ليست جريمة فردية بل جرس إنذار مخيف. رصاصة واحدة، أطلقت بدم بارد على شاب أعزل، كشفت أن هناك مناطق في قلب العاصمة تُدار بمنطق المربعات الأمنية والسلاح المتفلّت، لا بمنطق القانون. قَتل إيلي جرى علناً، ثم بدأ التعتيم على الجريمة فور وقوعها، وكأن حياة اللبناني يمكن شطبها على باب مخيم أو تحت راية فصيل. لم يُجرَ أي تحقيق جدي في هذا الصدد، ولم يُعلن عن أي توقيفات موقِنة أو موقف حاسم من السلطة التي سارعت إلى استباق العدالة بـ "الاعتبارات الأمنية" المعتادة. عندما تستقيل الدولة من إحقاق حق دماء مواطنيها، فهي لا تعلن ضعفها فقط، بل تتخلى عن وظيفتها الأساسية وهي: حماية الناس. إيلي أبو حنّا لم يُقتل برصاصة مجهولة، بل بسبب دولة تخلّت عن حاضرها ومستقبلها. وهذه الجريمة تُسلط الضوء بوضوح على مسألة مفادها: أن السيادة لا تُطَبَق على الحدود فقط، بل في كل شارع تفخخه رهبة السلاح.

السلاح غير الشرعي اليوم ليس مجرد قضية أمنية، بل تهديد اقتصادي واجتماعي وجودي. لأن الاستثمار يحتاج إلى دولة تحمي الملكية الخاصة، والسياحة تحتاج أمناً لا رسائل نارية؛ والثقة الدولية تطالب الدولة بأن تمسك بقرارها. ماذا نُقَدم لشركة تنوي الاستثمار في البلاد أو لمؤسسة دولية تفكر بتقديم الدعم، حين يكون مستقبل أي مشروع مرهوناً بمزاج ميليشيا مسلحة أو نفوذ فصيل خارج القانون؟ لبنان لا ينهار لأن موارده شحيحة؛ لبنان ينهار لأن أمنه وسياسته واقتصاده مرتهنة لمن لا يرى الدولة سوى غطاء.

ومن أوجه الانقلاب على الدولة أيضاً القانون الانتخابي. إذ إن الناخب في الجنوب والبقاع لا يختار ممثله بضمير حر، بل تحت ضغط قوة تفرض عليه خيارات مسبقة. فالدوائر تُفصّل على قياس مراكز القوة، فيما تُخنق المنافسة لأن أحداً لا يجرؤ على مزاحمة من يملك السلاح. هذه ليست ديمقراطية؛ هذه إدارة سياسية لموازين قسرية تتخفى خلف صندوق الاقتراع.

وفي هذا السياق، يأتي مَنع المغتربين من الاقتراع كجريمة موصوفة بحق لبنان عَينه. الاغتراب ليس محفظة دولارات فحسب، بل جسراً حضارياً ومعرفياً وسياسياً. هؤلاء الذين حافظوا على لبنان في قلوبهم يريدون دولة تشبه كفاءتهم وكرامتهم، ولذلك تخشاهم السلطة التي ترفض أي رأي حر يُحاسبها أو يوازن قوة السلاح. لبنان قوي باغترابه، ومن يسعى لإقصاء هذه الفئة عن التصويت يعلن بوضوح أنه يريد جمهورا مقموعاً لا شعباً شريكاً.

هنا تحديداً يَظهر عمق الأزمة: السلطة ليست عاجزة عن قراءة المشهد، بل تتَمَنع عن مواجهة مسؤولياتها. رئيس الجمهورية يحسب كلماته خوفاً من "المحظور الطائفي"، ورئيس الحكومة يفضّل التفاوض عبر قنوات خلفية اعتادتها المنظومة؛ أما رئيس مجلس النواب فيستثمر في الزمن الضائع. الثلاثة يتصرفون كمدراء أزمة، لا كقادة دولة.

في المقابل، تأتي المبادرة المصرية كفرصة عربية حقيقية، لا كوساطة دبلوماسية شكلية. القاهرة كانت شريكاً في إنهاء حرب غزة، وتعرف تماماً كيف تُدار المراحل الانتقالية. تقول للبنان: إن كنتم لا تريدون أن تُدفعوا قسراً إلى التسوية، فباشروا أنتم بوضع شروطكم. من مصلحة العرب أن يستعيد لبنان قوته، لكن لا أحد سيدافع عن لبنان أكثر مما يدافع اللبنانيون أنفسهم عن بلدهم.

أما واشنطن فلم تعد تخفي نفاد صبرها. ترى إدارة ترامب أن وقف إطلاق النار الدائم يحتاج إلى مفاوضات مباشرة. بينما تدير بيروت أمورها كقاصر في الشؤون السياسية يوفد ضباطاً بدلاً من إرسال قرار. لا تكون حماية "المقاومة" بترك الدولة بلا سيادة؛ ومنطق الرفض المجاني قد يتحول قريباً إلى فقدان القدرة على الرفض أصلاً.

هذا العجز ينعكس في القضاء أيضاً. النيابات العامة تتدخل حيث لا يجب، وتصمت حيث يجب أن يعلو صوتها. ملفات الفساد تُحبس في الأدراج؛ والتحقيق في جريمة المرفأ يواجه سلاحاً يحمي المتهمين أكثر مما يحمي العدالة. هكذا تفقد الدولة أدواتها الواحدة تلو الأخرى، والناس يفقدون ثقتهم تباعاً.

هناك خطوات ممكنة وضرورية: فتح تحقيق شفاف في جريمة شاتيلا، وضع جدول زمني واضح لحصر السلاح وضبط الحدود، إعادة الاعتبار للتصويت الحر والمغترب، وتبنّي سياسة خارجية تجعل لبنان شريكاً في التسويات لا ضحيتها. كل ذلك ممكن حين تتوفر الإرادة.

ما يهدد لبنان اليوم هو استمرار نهج السلطة الحالي وليس هجوم اسرائيلي. يمكن للبنان أن يتعافى من حرب، لكنه لا يتعافى من الاستسلام والخوف. من دون إرادة سيادية واضحة سيتحول البلد إلى منطقة عازلة أبدية، لا يُسمَع صوتها ولا تؤدي أي دور مستقبلي في المنطقة.

إما أن تقوم الدولة بواجباتها كدولة مسؤولة، أو غيرها سيكتب مصير اللبنانيين. لقد دقت الساعة السياسية، وهامش الفرص يضيق. من لا يتحلّى بشجاعة السيادة اليوم لن يمتلك غداً أي قرار وسيفقد وطنه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.