تتحرّك العلاقة الروسية – التركية على حافة توازنٍ دقيق: اقتصادٌ متين ومتشابك، مقابل توتّراتٍ سياسية وأمنية لا تُخفى عنوانها الأسلحة التي تنتقل من تركيا إلى أوكرانيا تحت مسمى "القطاع الخاص".
فبين موسكو التي تحتاج منفذًا اقتصاديًا وسياسيًا في البحر الأسود والشرق المتوسّط، وأنقرة التي تعيد هندسة تموضعها بين الغرب وروسيا، تشهد علاقة بين الطرفين "منفعةٍ صلبة" لا تُخفي تناقضاتها.
اقتصاديًا، لا تزال روسيا شريكًا تجاريًا ضخمًا لتركيا. حجم التبادل الثنائي بلغ في العام 2024 نحو 52.6 مليار دولار، أي بتراجع قارب 7 بالمئة عن العام السابق 2023، مع عجزٍ تركيٍّ كبير ناتجٍ عن واردات الطاقة والمواد الأولية.
صادرات تركيا إلى روسيا هي قرابة 8.6 مليارات، مقابل وارداتٍ تفوق 44 مليارًا. ومع أنّ ضغوط العقوبات الغربية والقيود المصرفية خفّضت صادرات تركيا إلى روسيا بداية 2024 بنحو الثلث، فإنّ قنوات التبادل عادت وتكيّفت مع تلك العقوبات، لكن من دون أن تُعالج اختلال الميزان البنيوي.
إذاً، تحتلّ الطاقة محورًا مركزيًا في هذا التشابك: "تورك ستريم" بات مسارًا رئيسيًا للغاز الروسي إلى تركيا وجنوب أوروبا، وتكشف أرقام العام 2024 عن أكثر من 21.5 مليار متر مكعّب وصلت إلى تركيا (أنابيب + غاز مسال)، وهو ما يكرّس اعتمادًا تركيًا مرتفعًا على الغاز الروسي بالرغم من جهود التنويع. وإلى جانب الغاز، يُمثّل مشروع "أكويو" النووي، ورشةً استراتيجيةً بقيمة وصلت إلى نحو 20 مليار دولار.
السياحة بدورها "رئة" ناعمة للعلاقة: تصدّرت تركيا وجهات الروس في العام 2024 بنحو 6.7 ملايين سائح، وهو ما يعزّز تدفّق العملات الصعبة إلى تركيا ويجعل المزاج السياحي عامل ضغطٍ على أيّ تصعيدٍ سياسيّ.
وعلى خطّ الوساطة، لعبت أنقرة دورًا محوريًا في "مبادرة الحبوب" (2022–2023) التي سمحت بشحن قرابة 33 مليون طن من أوكرانيا إلى عشرات الدول قبل أن تتعثر لاحقًا، وهو ما أظهر بدوره قدرة تركيا على لعب دور "الوسيط"، وعلى تثمير موقعها الجغرافي والدبلوماسي حين تتوفّر إرادة الأطراف كلها.
لكن بالرغم من كل هذه المعطيات، فإنّ العلاقة بين الطرفين تقوم فوق "أرضٍ أمنيةٍ رخوة". منذ العام 2022، دخلت الطائرات المسيّرة التركية المعادلة العسكرية في أوكرانيا، وولّدت حرجًا دائمًا لأنقرة أمام موسكو. الموقف التركي الرسمي ظلّ يؤكد، من باب التبرير، أنّ هذه المبيعات هي "صفقات" لشركات خاصة وليست مساعدات حكومية، وأنّ بعضها قد سبق الحرب، في محاولةٍ للحفاظ على الخطّ الدقيق بين الشراكة الاقتصادية مع روسيا ودعم أوكرانيا عسكريًا. ومع ذلك استمر التعاون الصناعي بين أنقرة وكييف بالتوسّع.
الاستثمارات المعلنة لشركة "بايكار" المصنعة للمسيّرات ارتفعت لنحو 100 مليون دولار في كييف عبر مشروع إنشاء خط إنتاج داخل أوكرانيا (تعرّض لأضرار وأُعلن إعادة بنائه)، ما عكس في حينه قرارًا استراتيجيًا لدى الشركة، ومن ورائها الدولة طبعاً، بالتوغّل في سلسلة التوريد الدفاعية صوب أوكرانيا.
واليوم، تواصل شركات الصناعة العسكرية التركية إنتاج مجموعة واسعة من الأسلحة الدفاعية والسلع ذات الاستخدام المزدوج، وتنشط في توريد هذه الأسلحة بانتظام إلى القوات المسلحة الأوكرانية لاستخدامها عسكريًا ضد روسيا، وذلك بالرغم من التصريحات التركية نفسها، بشأن الطبيعة تلك الصفقات "غير الحكومية"، والتي يُزعم كالعادة أنها نُفِّذت بموجب عقود تجارية وأُبرمت قبل الحرب الروسية – الأوكرانية.
وفي التفاصيل، فإنّ شركة "أرسا" (ARCA) التركية ومقرّها في العاصمة أنقرة، تنشط بشكل واسع في توريد الأسلحة إلى أوكرانيا، ليس مباشرةً وإنّما عبر أطراف ثالثة (دول). وبحسب المعلومات، فإنّ عمليات التسليم تحصل بموجب عقود مُبرمة حديثًا، وليس بموجب اتفاقيات سبقت اندلاع الحرب في شباط (فبراير) 2022 كما تزعم أنقرة.
هذه الشركة تُعرّف عن نفسها، في موقعها الإلكتروني، على أنّها متخصّصة في صناعة الذخائر والمقذوفات، وكذلك المركبات المدرعة والصواريخ الجوية والبحرية والبرية والطائرات المسيّرة والمتفجّرات وأنواع مختلفة من الأسلحة.
الشركة تنفّذ كذلك عقودًا لصالح وزارتي الدفاع والداخلية التركيتين، بما يدللّ على ارتباط مؤسّسي وثيق وعميق بالدولة التركية، وهذا ما يقوّض تبريراتها بعدم انخراطها في الصراع، ويتناقض مع صورتها كـ"وسيط مستقل".
موسكو تنظر إلى هذا السلوك التركي بوصفه محاولة لـ"المراوغة المُمنهجة" من أجل تحصيل مكاسب من الطرفين: طاقة وسياحة ومشاريع نووية مع روسيا، وصفقات دفاعية وتكنولوجيا مع الغرب من البوابة الأوكرانية.
في المقابل، تُسوّق أنقرة لرواية "القطاع الخاص"، فتُبقي كثيرًا من التفاصيل طيّ الكتمان للحدّ من الكلفة السياسية مع موسكو. قد تبدو دقة "الانتظام" و"العقود الجديدة" مسألةً صعبة التوثيق، لكن المؤشّرات العامة تدعم استمرار العلاقة الدفاعية بصيغٍ متكيّفة.
أمّا بالنظر إلى تقدّم العملية العسكرية الخاصة ونتائجها، فإنّ الميدان يدلّل على أنّ موسكو أصبحت بمكانة متقدمة، وعلى بُعد أمتار قليلة من إعلان انتصار منجز مكّنها من ضمّ ما تريده من الأراضي الأوكرانية.
وبالتالي فإنّ رهان تركيا على "الطرف الآخر" (أوكرانيا) هو رهان خاسر، ومن الأجدى تبنّي الحياد الحقيقي الداعم للسلام والاستقرار في أوروبا الشرقية وفي منطقة البحر الأسود. لكن يبدو أنّ "المنفعة" التركية تتقاطع هنا تحديداً مع "الازدواجية".


 
			
			