اتسم الموقف العام للدول العربية بالحياد إزاء الصراع في أوكرانيا منذ اندلاعه في شباط (فبراير) 2022، انطلاقاً من سعيها للحفاظ على التوازن في علاقاتها مع أطراف النزاع، بل إن عدداً من الدول لعب أدواراً متقدمة على صعيد الوساطة بين موسكو وكييف، سواء من ناحية تبادل الأسرى، أو من ناحية استضافة ممثلين عن الطرفين لإجراء محادثات توطد مسار السلام المضطرب.
بيد أن سوق السلاح شكل إغراء يصعب التعامل معه، ولا سيما مع ارتفاع حاجة أوكرانيا إلى موارد عسكرية في ظل طول أمد الصراع، حيث استعانت أميركا وأوروبا بشركات تركية، ومؤخراً بشركات عربية. الأمر الذي أحدث انزعاجاً لدى روسيا عبّرت عنه وسائل إعلامها، حيث تدعم موسكو موقف الحياد الذي تبنته دول المنطقة، وتعطي أهمية خاصة لتطوير علاقاتها معها بعدما أعادت صياغة سياستها الخارجية على وقع تطورات الصراع.
مدافع مصرية في الميدان
حسب تقارير إعلامية روسية، زودت شركة "أبو زعبل المصرية للصناعات الهندسية" القوات المسلحة الأوكرانية بـ16 مدفع "هاوتزر" من طراز "D – 30" عيار 22 ملم، وذلك عبر طرف ثالث، وهي شركة "أكساليبور آرمي" التشيكية "Excalibur Army spol S.R.O."، والتي ترتبط بعقود مع الحكومة الأوكرانية. هذه العقود تندرج ضمن الشراكة الأوكرانية – التشيكية على أكثر من صعيد برعاية الاتحاد الأوروبي، من أجل دعم كييف وتعويض خسائرها.
تبين التقارير أن شركة "أبو زعبل"، وهي إحدى شركات "الهيئة القومية" التابعة لـ"وزارة الإنتاج الحربي"، سلمت المدافع إلى "أكساليبور" في تشيكيا. وتعد مدافع "الهاوتزر" سلاحاً محورياً في الصراع الأوكراني، وتحتل مكانة استراتيجية بالنسبة للقوات المسلحة الأوكرانية، حيث ترتكز عليها في تحصين قدراتها الدفاعية. وسبق أن زودت ألمانيا كييف بعدد كبير منها من أنواع وطرز أخرى. واحد من هذه الأنواع يستخدم قذائف "أكساليبور" الأميركية التي يمكن توجيهها عبر نظام تحديد المواقع "G.P.S."، ويبلغ ثمن القذيفة الواحدة ما يقرب من 70 ألف دولار.
لكن المدافع المصرية هي من طراز أقل تطوراً وكلفة، ويمكنها إطلاق ما بين 7 إلى 8 قذائف في الدقيقة الواحدة، وجرى تصميمها لتحل مكان "الهاوتزر" القديم "M-30" السوفياتي، وهذه النوعية من المدافع تستخدم من قبل القوات المسلحة المصرية وكذلك العديد من الدول التي يغلب على سلاحها الهوية السوفياتية.
ويبدو أن ضغوط تقييد المساعدات المالية الغربية لأوكرانيا دفعت بالرعاة الأوروبيين، بعد التحولات في الموقف الأميركي، إلى البحث عن موارد عسكرية أقل تكلفة، ولذلك بدأوا يتعاقدون مع شركات تركية وعربية، وشركات صناعات دفاعية آسيوية، بطرق ملتوية ومعقدة، من أجل الحفاظ على استدامة الصراع إلى أن يتمكنوا من تحسين وضعيتهم على طاولة المفاوضات. ذلك أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل الاتحاد الأوروبي من موقع الشريك، كما كان الحال مع إدارة سلفه، إلى موقع هامشي يضعف تأثيره.
الشراكة الاستراتيجية المصرية – الروسية
تعتبر مصر وجهة جذابة بشكل خاص لرجال الأعمال الروس، إلا أن المساعدة التي تقدمها الشركات المصرية لأوكرانيا قد تؤثر سلباً حتى ولو كان دافعها مالياً بحتاً. ترتبط القاهرة وموسكو بعلاقات وثيقة وعريقة عمرها عقود على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية والتجارية والسياحية.
وتعد مصر من الشركاء الاستراتيجيين بالنسبة إلى روسيا، حيث أبرم الطرفان اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين عام 2018، كما دعمت موسكو انضمام القاهرة إلى مجموعة "بريكس" الواعدة، لتنويع شركائها الخارجيين والإفادة من الفرص الاستراتيجية التي تتيحها المجموعة.
إلى ذلك، تعد مصر وجهة سياحية مفضلة للسياح الروس، ويعتبر السوق الروسي من أكبر الأسواق السياحية بالنسبة إلى مصر. حسب أرقام رسمية صادرة عن السلطات المصرية، بلغ عدد السياح الروس في مصر عام 2024 نحو 1.5 مليون سائح من إجمالي 8.7 مليون. ومن المتوقع حسب وزارة السياحة المصرية أن يرتفع العدد هذا العام ليبلغ نحو مليوني سائح روسي.
وفي الإطار عينه، تعد مصر أكبر مستورد للقمح الروسي، وبالتالي تشكل روسيا الركيزة الأكبر في الأمن الغذائي المصري، حيث تؤمن 77 بالمئة من احتياجات السوق المصرية من القمح، في حين تبلغ حصة القمح الأوكراني نحو 13 بالمئة.
وبالإجمال، فإن التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي بلغ نحو 9 مليارات دولار، وعمل الطرفان على تطوير هذا التبادل خلال العام الحالي بنسبة 30 بالمئة. ومن المستهدفات الواردة في اتفاقية الشراكة الاستراتيجية إنشاء منطقة صناعية روسية في السويس بما يساعد الشركات الروسية على توطين الصناعات الروسية، وذلك ضمن برنامج طموح وموسع تعكف موسكو على تطبيقه بشكل متدرج.
محطة "الضبعة" النووية
علاوة على ذلك، فإن العلاقة مع موسكو تحتل أولوية على صعيد الأمن القومي المصري والسياسة الخارجية، حيث ثمة العديد من المشاريع الاستراتيجية المشتركة. أبرزها على الإطلاق هو مشروع محطة "الضبعة"، وهي أول محطة للطاقة النووية في مصر، وبدأ بناء الوحدة الأولى منها في تموز (يوليو) 2022، أي بعد نحو خمسة أشهر على اندلاع الصراع الأوكراني.
هذه المحطة المقامة بمحافظة "مرسى مطروح" في الساحل الشمالي الغربي المصري على البحر المتوسط تتكون من أربعة مفاعلات روسية، بقدرة إنتاج 1200 ميجاوات لكل مفاعل، ويتم بناؤها بتمويل روسي بنسبة 85 بالمئة عبر قرض حكومي ميسر بقيمة 25 مليار دولار على 22 سنة، يبدأ السداد عام 2029، وينفذ من قبل شركة "روساتوم" الحكومية الروسية.
من المتوقع أن يتم تشغيل المفاعل الأول في النصف الثاني من عام 2028. يقول ألكسي ليخاتشوف، مدير "روساتوم"، في تصريحات صحافية، إن محطة "الضبعة" تعد "أكبر موقع بناء نووي في العالم من حيث المساحة الجغرافية". كما أن روسيا ستتكفل بتأمين الوقود النووي لدورة حياة المحطة.
بعد إعادة صياغة سياساتها الخارجية على خلفية إقفال الأسواق الغربية والعقوبات المغلظة منذ بدء الصراع في أوكرانيا، شهد مستوى التعاون الاقتصادي والسياسي بين موسكو والجهات الفاعلة الرئيسية في المنطقة ارتفاعاً ملحوظاً، حيث عملت روسيا على تحويل السياسات الغربية ضدها من سلاح سلبي إلى فرص لاستهداف أسواق جديدة وإبرام شراكات استراتيجية.
ورغم أن تزويد شركة "أبو زعبل" القوات الأوكرانية بمدافع "هاوتزر" لن يؤثر على العلاقة بين البلدين وشراكتهما الاستراتيجية، إلا أن استمرار هذا النشاط وتوسعه سيلحق ضرراً بروسيا لا يتسق مع السياسة الخارجية المصرية، وموقفها الراسخ بالحياد الفاعل في الأزمات والصراعات، حتى تلك التي يمكن أن تمس أمنها القومي، حيث تنتهج القاهرة سياسة مرنة تحاول من خلالها الحفاظ على علاقاتها مع مختلف الأطراف.


