ما بين مطرقة الدمار وسندان التباينات السياسية، يقف قطاع غزة اليوم على مفترق طرق مأساوي، حيث يمتزج صوت القصف المتجدد كما شهدناه بالأمس القريب في خرق واضح لهدنة لم تُزهر بعد، بأصداء المؤتمرات والوعود الدولية لإعادة الإعمار. المشهد يبدو كحلقة مفرغة، تتجسد فيها مأساة شعب محاصر يئن تحت وطأة الخراب، وتُعقد فيها الحسابات الاستراتيجية التي تُعلي من شأن "الأوراق" التفاوضية على حساب ضرورات الحياة اليومية.
لقد كشفت التطورات الأخيرة للحرب الإسرائيلية الفلسطينية، وما تبعها من مفاوضات إقليمية مكثفة، أبرزها تلك التي احتضنتها شرم الشيخ، عن حقيقة مريرة: وهي أن وقف الأعمال العدائية مؤقتًا شيء، وإرساء أسس استقرار مستدام شيء آخر تمامًا. فبينما تسعى مصر والأردن وقطر وجهات دولية أخرى إلى تثبيت الهدوء والدفع بخطط إنعاش اقتصادي شاملة لغزة، نجد أن كل تلك الجهود تتعثر أمام نقطة شائكة محورية: ملف رفات الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس.
منذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار، كان الربط بين إعادة الإعمار وإحراز تقدم في ملف تبادل الأسرى (بما في ذلك تسليم الجثامين) واضحًا في الكواليس الدبلوماسية. الدول المانحة، وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بالإضافة إلى جهات إقليمية فاعلة، تنظر إلى هذا الملف ليس فقط من زاوية إنسانية، بل كـ "مؤشر ثقة" ضروري لضمان أن الأموال الطائلة التي ستُضخ لإعادة بناء القطاع لن تذهب سُدى في جولة قتال جديدة قادمة. إنهم يشترطون بيئة مستقرة سياسيًا وأمنيًا.
في هذا السياق، يأتي موقف حماس الرافض للتعاطي مع هذا الملف إلا بـ "ثمن باهظ" يمثل عائقًا رئيسيًا أمام تفعيل خطط الإعمار الشاملة. لا يمكن لأحد أن يلوم حماس على استغلال ورقة بهذا الثقل الاستراتيجي لتحقيق أهدافها، خاصة الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وهو هدف وطني أصيل. فالمقاومة ترى في هذه الرفات مفتاحًا لتحرير مئات من أبنائها يقبعون في السجون الإسرائيلية، وهي لا ترغب في إهدار هذه الفرصة التفاوضية النادرة.
لكن، وفي إطار نقد موضوعي لا يُقصد به التقليل من شرعية المقاومة، بل يهدف إلى خدمة مصالح الشعب الفلسطيني في غزة تحديداً، يجب طرح سؤال استراتيجي: هل التمسك المطلق بهذه الورقة في هذا التوقيت هو الخيار الأمثل؟ إن رفض إبرام اتفاق مرحلي، أو حتى التوصل إلى تفاهمات واضحة تُطلق عجلة الإعمار، يضع الحركة في موقف تتعارض فيه الأولويات. فالأهالي في غزة ليسوا بحاجة إلى المزيد من الوعود، بقدر حاجتهم إلى سقف يقيهم المطر، وإلى مستشفى يعمل بكامل طاقته، وإلى إعادة فتح آفاق اقتصادية شبه منعدمة.
إن تجميد مليارات الدولارات المخصصة للبناء، بسبب التشدد في ملف الأسرى قبل الأوان، يمثل ضغطًا هائلًا على كاهل المدنيين، ويُطيل أمد معاناتهم، بل ويُعطي ذريعة للأطراف الإسرائيلية لتجديد الضربات كما حدث بالأمس، بحجة "عدم الاستقرار" أو "خرق التفاهمات". فكل تأخير في الإعمار هو خدمة مباشرة لمن يسعى إلى إبقاء غزة في حالة دائمة من الوهن والاحتياج.
إن الحكمة تقتضي الموازنة بين الضرورة الإنسانية الملحة في غزة، وبين المكسب الاستراتيجي من ورقة الأسرى. كان بالإمكان، ولا يزال، الدفع باتجاه آلية تفاوضية تضمن إطلاق عملية الإعمار فورًا، مقابل التزام واضح وموثق من حماس بالبدء بتبادل مرحلي، أو على الأقل، بوضع إطار زمني واضح لحل ملف الجثامين ضمن صفقة شاملة. هذا النهج كان سيُظهر حماس بموقف أكثر مسؤولية تجاه شعبها أمام المجتمع الدولي، ويدفع باتجاه إحراج الطرف الإسرائيلي لتقديم تنازلات أكبر.
إنَّ ما شهدناه في مفاوضات شرم الشيخ وغيرها من لقاءات يُظهر أن الأطراف الإقليمية مستعدة لضمان التزامات مالية وسياسية ضخمة، لكنهم بحاجة إلى "ضوء أخضر" يضمن عدم انهيار هذا الترتيب الأمني والإنساني الجديد. واستمرار حماس في ربط كل خيط من خيوط الإعمار بصفقة كاملة، يُبقي القطاع رهينة التجاذبات، وهو ما يدفع ثمنه المواطن الفلسطيني يوميًا.
على صناع القرار في غزة أن يدركوا أن إعادة بناء غزة ليست مجرد "هبة" يمكن التغاضي عنها، بل هي بنية تحتية للصمود والمقاومة ذاتها. فلا يمكن للمقاومة أن تستمر وتزدهر وسط شعب جائع ومدمر البنى التحتية. إنها دعوة لإعادة ترتيب الأولويات بمسؤولية تاريخية، تضع الإغاثة والإعمار في المسار السريع، وتستثمر ورقة الأسرى بذكاء يحقق المكاسب الوطنية دون أن يُرهن مصير ملايين البشر للمجهول.


