بعد ثماني حلقات من "هاشتاك الناس"، بدأ الصدى يعلو. وصلتني رسائل من قرّاءٍ وزملاء، بعضهم شكرني بصدقٍ يشبه دفء فنجان قهوة في صباحٍ بارد، وآخرون حذروني بعباراتٍ مغلفةٍ بالقلق: "خفف نبرة الكتابة... الوضع لا يحتمل".
فرحت، ليس لأن المقالات نالت إعجابًا، بل لأن الكلمة بدأت تزعج من لا يريد سماعها. فحين ترتجف الكراسي من مقالٍ صغير، اعرف أنك وضعت إصبعك على الجرح. ثم بدأت تصل الرسائل الأخرى، تلك التي تشبه العتاب حينًا والتهديد حينًا آخر: بعضهم يلوّح بالإغراء، وآخرون يلوّحون بالسلاح. الأولى تقول: "اهدأ وسنقف معك"، والثانية تهمس: "اصمت وإلا سنجعلك تصمت."ضحكت، وقلت لنفسي: لو كانت الكلمة تُخيفهم هكذا، فلماذا لا أكتب أكثر؟
التهديد، مرّ عليّ مثل نكتةٍ ثقيلة. يهمسون عن “الكواتم” وكأنها آلهة العقاب. لكني أقول لهم: "جربوا كتم الكلمة، وستعود بصوتٍ أعلى." فالكواتم لا تصيب الأفكار، بل الأجساد، والرصاصة لا تقتل الذاكرة، بل توقظها.
أنا لا أكتب لأصبح بطلًا، ولا لأحصل على تصفيقٍ في نهاية المقال. أكتب لأنني ابن الشعب الذي يتنفس وجعه ويضحك على بؤسه. أكتب لأني لا أحتمل أن أرى الناس تُهزم مرتين: مرة بالفساد، ومرة بالصمت.
أحيانًا أجلس في المقهى، أمام شاشةٍ صغيرةٍ تبثّ الأخبار العاجلة، أقرأ: "الإصلاح مستمر!"، فأضحك حتى تدمع عيناي — ليس فرحًا، بل لأن الضحك صار وسيلة دفاع عن العقل. ما أطول عمر هذه الكلمة، تُقال منذ عشرين عامًا ولم تصل بعد إلى الإصلاحية.
الكتابة عندي نوعٌ من الجنون الجميل، مقاومة للخذلان، للبلادة، للأكاذيب المغلّفة بالابتسامات الرسمية. أعرف أن كلماتي تُراقَب، كما تُراقَب الطيور النادرة، لكن من يستطيع أن يمنع العصافير من الغناء؟
أنا لا أكتب عن الانتخابات فقط، بل عن الذين انتُخبوا للصبر، عن الذين لم يُعلن أحد فوزهم في الحياة.
عن الأم التي تبيع ذهبها لتدفع إيجار البيت وتخفي دمعتها خلف ابتسامةٍ متعبة، وعن الطالب الذي يقرأ على ضوء شمعةٍ نحيلة ويُقال له: "أنت مستقبل الوطن"، بينما الوطن نفسه يعيش على ضوء مولدٍ متهالك.وعن الطبيب الذي يعالج المرضى براتبٍ لا يعالج حتى جرحه، فيبتسم بمرارةٍ ليبقي إنسانيته على قيد الحياة.وعن الشاب الذي يهاجر على ظهر سفينةٍ من الحنين، يتشبث بحلمٍ صغير وسط بحرٍ من الخيبة، ثم يُتّهم بأنه خائن لأنه لم يحتمل الانتظار.وعن المتقاعد الذي أفنى عمره في خدمة الدولة، فمكافأته كانت أن تسحقه السلطة بالإهمال والجوع، يمدّ يده لا ليستجدي، بل ليشير إلى الذين نسوه، كأنه يقول لهم: "أنا أيضًا كنت جزءًا من هذا الوطن."هؤلاء جميعًا هم الناخبون الحقيقيون في مسرح الحياة اليومية، الذين لا يملكون أوراق اقتراع، بل يمتلكون وجعًا صادقًا، وصبرًا يكفي لإعالة وطنٍ بأكمله.
أنا أكتب وأنا جالس على الرصيف، أسمع أنين الباعة، وضحكات الأطفال المتعبة، وصوت المولد الكهربائي الذي صار نشيدنا الوطني. أكتب لأن الكتابة الشيء الوحيد الذي لا يُسرق، لأنني لا أستطيع أن أعيش بلا وطن، حتى لو لم يبقَ من الوطن إلا كلمة.
يقولون لي: "انتبه، الخطر يقترب."وأجيبهم: "أنا لا أبحث عن النجاة، أنا أبحث عن الحقيقة."فمن يكتب للحقيقة لا يموت، وإن صمت صوته، تبقى كلماته تتجوّل في الأزقة، تطرق الأبواب، وتهمس في آذان الناس:
"لا تخافوا… فالكلمة أقوى من الكاتم".
نعم… الدنيا تريد واحدًا يجلس ويسكت، لكن المشكلة أن الساكت صار يخاف من نفسه إذا فكّر بصوتٍ عالٍ! فـاقعد، اشرب فنجان شاي، وابتسم، لأن في هذا البلد… الضحك نفسه مقاومة، والكتابة جريمة،والصمت بطولة مؤقتة.
وحتى لو حاولوا كتم الصوت… يبقى "هاشتاك الناس" ما يسكت.


