شدّني مقال الصديق د. عبدالله إبراهيم الكعيد «حنجرة للتأجير (استخدام حشمة)»، عن ظاهرة «نظام التأجير» التي تحوّلت إلى مشهدٍ يوميٍّ يُؤجَّر فيه كل شيء… حتى الحناجر!
نعم، الحناجر التي تُستأجر اليوم بكامل متانة حبالها الصوتية للصراخ في المنصّات المرئية والمسموعة والرقمية، لتسويق أشخاصٍ يُركَب عليهم الموقف ويُنفخ فيهم صوتُ بطولةٍ زائف، فيرتفع صراخهم لا عن قناعة، بل عن عقد عملٍ مؤقت!، أو لتلميع خطابٍ سياسيٍّ مشبوه، أو لغسل سمعة نظامٍ منبوذ.
ويؤكد د. الكعيد في ختام مقاله أن:
"أولئك الحنجوريين يعيشون في وهمٍ كبير، لأن عقولهم توقفت عند عقد الثمانينيات، وظنّوا أن مقولة افتح فمك يرزقك الله ما تزال تُؤكَل بها العيش، في زمنٍ صار فيه كل شيء مكشوفًا ومعروفًا."
وأؤكد بدايةً لصديقنا الجميل أن هؤلاء موجودون في كل مكان، يؤدّون أدوارهم عند الحاجة، ثم يُركنون إلى الجدار عندما ينتهي المشهد، كأي لقمةٍ ناشفةٍ تتحاشاها الأقدام... تقديسًا للنعمة!
وقد أهديتُ أحدهم أحد كتابي– حكاية صرماية: العرب وثقافة الحذاء – وكتبتُ في الإهداء:
إلى صاحب فكرة هذا الكتاب:
بعد قراءتي «الثرية» لمذكراته خرجتُ بتغريدة في تويتر قلتُ فيها:
«قرأتُ أخيرًا مذكرات أحد الدبلوماسيين، واكتشفتُ أن كل مؤهلاته أنه كان واقفًا عند باب الخروج، ينتعلونه إذا فقد أحدهم حذاءه!»
ولعلي أضيف هنا إلى ما قاله الصديق د. الكعيد أنواعًا أخرى من "الحنجوريين" في مجالات السوشيال ميديا والسياسة، بثلاث فئات معروفة في الشارع العربي:
1. المزغرطات المحترفات
ارتبطت الزغرودة بالمناسبات السعيدة منذ مئات السنين. ونظرًا لانشغال أهل العروسين في تجهيز العروس وما يرافق ذلك من طقوس الفرح، ظهرت فئة "المزغرطات المحترفات" اللواتي يُستأجرن في الأفراح ليُعبّرن عن مشاعر الفرح الجماعي ويُعلِنّ أن حدثًا سعيدًا وقع في البيت أو الحي، سواء كان زواجًا أو نجاحًا أو عودة غائب.
لكن الجديد أن "الزغاريد" تمددت أخيرًا لتشمل المناسبات السياسية أيضًا! فصار الفرح الوطني لا يكتمل إلا بزغرودةٍ مدفوعة الأجر.
2. النائحات المستأجرات
وهنّ مجموعة من النسوة المتخصصات في «العديد» في الجنائز، ينتحبن ويولولن مقابل أجرٍ يدفعه أهل الميت.
وقد تحوّل "العديد" السياسي في بعض وسائل الإعلام إلى مشهدٍ مماثل، حيث تُستأجر الحناجر نفسها لتنوح على «قضيةٍ خاسرة» أو على «زعيمٍ راحل»… أو حتى على «مجدٍ مفقود»!
3. الرداحات
هذه الفئة تناولتها بالتفصيل في كتابي الردحولوجي Radhology كظاهرةٍ تجاوزت المستوى المحلي إلى نطاقٍ دولي. وقد كتبت عنها في مقالٍ قديم (25 مارس 2019) بعنوان: «الردّاحون العرب؟!»، سمحت لنفسي فيه باستغلال اسم الشركة العملاقة المقاولون العرب لأصف ظاهرة إعلامية خرجت في الخمسينيات ونمت وكبرت حتى صارت مدرسة قائمة بذاتها.
هؤلاء لا يكتفون بادعاء الأمجاد والانتصارات، بل يستعملون حدّة اللسان وقُبح الألفاظ لإسكات خصومهم، ويقدّمون الأكاذيب باعتبارها «حقائق بديلة» – وهو المصطلح الذي ابتكرته كيليان كونواي (Kellyanne Conway)، مستشارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، لتسويق الأكاذيب على أنها روايات موازية للحقيقة!
لكن النسخة العربية من «الحقائق البديلة» أكثر براعة في استخدام «سلاح الردح» – وهو بالطبع غير «سلاح الردع»! فبينما يعتمد الردع على امتلاك القوة العسكرية، يعتمد الردح على امتلاك الصوت العالي والكلمة النابية التي لا يجاريها حتى سفهاء المواخير، لإخراس أصحاب الرأي الآخر... لا لأنهم عاجزون عن الرد، بل لأنهم أرفع من أن ينحدروا إلى مستواهم.
ولا عجب إذن أن تنام أمتنا العربية – كما قال المفكر السعودي عبدالله القصيمي – على وسادة أمجادها وتراثها، متناسيةً أن النهضة لا تُورَّث، بل تُصنع بالعقول.
فما أحوجنا اليوم إلى صحوة فكرية حقيقية تحرّر العقل العربي من سطوة «الحنجوريين» و«الرداحات» و«الزغاريد السياسية»، وتعيد له صوته الحرّ، ليلتحق بركب الأمم التي تصنع المستقبل… لا تلك التي لا تزال تبيع ضجيجها في سوق الكلام!

