: آخر تحديث

‏عثمان العمير كما عرفته!

9
10
6

مثل الأستاذ عثمان العمير علامة فارقة في تاريخ الصحافة السعودية، وكان ينبغي أن تنال تحليلاً وافياً من مؤرخ الصحافة السعودية المخضرم أ/ محمد القشعمي.
لقد جاء العمير في منزلة بين منزلتين تاريخياً: صحافة الأفراد وصحافة المؤسسات. وكان عليه، وهو ما كان ينوء به حقاً، أن يضع البصمات اللازمة التي تنقل الصحف السعودية من حالتها الأدبية والسياسية والقومية إلى الحالة المهنية الوطنية.
الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير الجزيرة شخصية عُرفت بالثقة العالية بالنفس وبصناعة النجوم وتكوين الفريق الصحفي المنسجم، اعتمد كثيراً على عثمان العمير بصفته كفاءة صحفية فذة لمس فيها القدرة والتحدي، فاعتمد عليه في النقلة الضخمة للجريدة من صحيفة أسبوعية إلى جريدة يومية. وهي تجربة مثيرة وغير مسبوقة في العاصمة السعودية. وكان الاستعداد لها يتوقف فقط على همة الرئيس المالك ومهارات الصحافي العمير.
في الواقع، إن قرار تحويل الجزيرة إلى جريدة يومية اعتمد على شجاعة رئيس التحرير أ/ خالد المالك، ورفيق دربه عثمان العمير الذي ملأ صفحات الجزيرة اليومية بالضجيج!

كان محرراً فنياً، ومحرراً رياضياً، ومحرر صفحات المنوعات، ومحرر الصفحة الأولى وربما الأخيرة. إنه فريق في رجل. وبعد ما تكامل فريق الجزيرة وجد الأستاذ خالد المالك أن هذا الصحفي الألمعي يستحق ما هو أكبر من هذه التجربة، التي ضاقت به وضاق بها!! وكافأه بمهمة حولت حياة العمير بشكل ثوري من صحافي محلي إلى صحافي دولي، وكأن الأستاذ المالك كان يستشرف المستقبل. لقد قام بإنشاء مكتب جريدة الجزيرة في لندن، ما أتاح له تعلم اللغة الإنجليزية والتعرف على الطبقة السياسية في لندن والرياض على حد سواء. واستلهم من الصحافة الإنجليزية أعظم ما في فنونها.
كان عثمان ابن روضة نجدية على وادي مرخ بلد الحطيئة وهي (الزلفي)، لكنه عاش جزءاً من حياته في المدينة المنورة؛ لذا فإن عجينة تكوينه الثقافي هي مزيج من ثقافة أدب الواحة النجدية التي كوّنت مزاج الحطيئة والشعر الرومانسي الحجازي الذي تشكل من مغامرات الشاعر عمر بن أبي ربيعة.
انعكس تلاقح هاتين البيئتين الأدبيتين داخل السعودية المعروفة بتنوعها في تكوين ثقافة (أبو عفان) وانعكست على قلمه الصحفي الأخاذ؛ بين الرومانسية والواقعية. فكان العمير من أوائل من وطّد اللغة الصحافية الحديثة في صحافة المؤسسات التي نشأت في منتصف الستينات رغم صغر سنه!

سبق صحافة المؤسسات صحافة الأفراد التي أنشأها الأدباء السعوديون في العقود الثلاثة الأولى من قيام الدولة السعودية الثالثة وازدهرت في عهد الملك سعود في الخمسينات وبعض الستينات. واتسمت بطغيان الرأي والأدب على مادتها. ولما انتقل العمير من جريدة الرياض إلى الجزيرة سال حبر قلمه ليسكب الخبر والتحقيق واللقاء والعناوين المثيرة خطاً جديداً غير أسلوب الصحافة السعودية وانعكس ليس على صحيفته الجزيرة فحسب بل في الصحافة السعودية بشكل عام.
لقد سخّر اللغة الأدبية لتكون في خدمة العناوين الصحفية المثيرة وللقصة الصحفية، ولقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى في مرحلة العمير الرياضية؛ أذكر من ذلك عنواناً رياضياً لا زال عالقاً بذهني هو (لماذا سموك وحشاً يا سيدي الوحش؟!) والوحش هذا كان المدرب المصري محمد الوحش عُيّن حديثاً مدرباً للمنتخب السعودي في أعقاب خسارته بطولة كأس الخليج في الكويت. فكيف قلب عثمان العنوان الصحفي من الجواب إلى السؤال؟! لأن الجمهور الرياضي السعودي كان في محل حيرة وقلق وانفعال على منتخبه المفكك. فغيّر العمير وجهته النفسية إلى اسم المدرب الجديد الوحش الغريب! والصحفي الناجح هو الذي يلتقط المانشيتات من أفواه الناس كما هو العمير!!
كانت بطولة كأس الخليج تمثل صداعاً للجمهور السعودي لأنها كانت مضمخة بالقليل من الإنجازات والكثير من الدبلوماسية! والصحفي القلق مثل العمير لا يحب الدبلوماسية! فكيف عبر العمير عن ضيق قرائه بهذا الوضع المزعج؟ استعان بأغنية جديدة لمطربه المفضل محمد عبده من كلمات الأمير خالد الفيصل عنوانها (يا زمان العجايب) واقتبس منها شطر بيت فكان المانشيت المذهل: في دورة الخليج (إن حكينا ندمنا وإن سكتنا قهر)! لقد عبّر أبو عفان عن خلجات آلاف الجماهير الرياضية السعودية الغاضبة من الهزيمة ومن التحكيم ومن المجاملات! رغم أن عثمان لم يكن وقتها محرراً رياضياً بل مدير عام التحرير الذي لا تفوت لمساته بعض الصفحات.
يعتقد الكثير من المحللين والكتاب الرياضيين بالمملكة أن عثمان العمير هو الذي منحهم فرصة الاستمتاع بالتعصب الرياضي لكنهم تغافلوا عن مهنية وموضوعية العمير التي لم تسقط بإعلان الميول!!
عندما ضاق (أستاذنا) ذرعاً بتصريحات رئيس ومشجعي النصر منافس ناديه (الهلال) وترديدهم أن الجزيرة والرياض صحف هلالية. قرر في ليلة (مقمرة) وهو يدخن لفافة التبغ بأحد مقاهي طريق خريص شرق الرياض (خريص حقل نفطي يبعد 150 كم شمال شرق الرياض) أن يواجه الحملة النصراوية العنيفة التي يراد لها أن تنال من مصداقيته الصحفية وتقتله مهنياً. فاستعان بالشجاعة الكافية القادرة على حماية غريزته الهلالية ولا تخرجه من أصول المهنة الصحفية؛ فكتب مقالته الشهيرة التي لن ينساها تاريخ الصحافة الرياضية السعودية وأعترف فيها بهلاليته وهلالية (الجزيرة) ونشرها بمانشيت عريض (هلاليون واشربوا من البحر!!) فأسقط راية من رايات النفاق وأقر واقعاً جديداً في الصحافة الرياضية السعودية، ومن بعدها أعلن كثير من الصحفيين ميولهم الرياضية فيما يشبه الهزة الأرضية التي ضربت صفحات اليوتيوبات الصحفية.
كانت الأندية الرياضية في البلاد مثل الأحزاب السياسية تحتاج إلى قادة وأعضاء وإلى جمهور وصحافة ونجوم يضعون المؤسسة في مكانها اللائق. وكان عثمان العمير من رتب هذه الهيكلة الإعلامية للأندية الجماهيرية بحق.
لم يستسلم جمهور النادي المنافس (النصر) لضربة عثمان العمير الاستباقية فهندس شعاراً جديداً استبدل فيه شعار (نادي الصحافة.. يا هلاآآل) ليبتدع في مدرجاته نشيد "نادي الرعاية.. يا هلاآآل" والرعاية هنا هي رمز القيادة الرياضية الرسمية للكرة السعودية واختصار مسماها (الرئاسة العامة لرعاية الشباب).
كأن العمير هنا قد أغرق النادي المنافس ببحر السلطة الرياضية ودفعه للاصطدام بقائدها الأمير (المحبوب) فيصل بن فهد بن عبدالعزيز ابن ولي العهد حينها.
انتقل عثمان العمير من دهاليز الهلال/النادي والجزيرة/الجريدة إلى لندن خلال النصف الثاني من السبعينات فخلفه بعمله في قيادة القسم الرياضي سبعة محررين تقاسموا مهام عثمان العمير على مدار الأسبوع، كل يوم لمحرر. كما تقاسم الإشراف على الصفحات الفنية عقب رحيل العمير محرران هما محمد التونسي وسمير الدهام. لأن الفراغ الذي خلفه العمير من الضخامة بمكان. ولأن التلاميذ لا يمكنهم أن يملأوا مقعد معلمهم الكبير بسهولة.
استطاع العمير وبكفاءة عالية أن يحظى بثقة المؤسسة السياسية البريطانية وإن كان قد أثار غيرة الصحافة البريطانية حينها. عندما رافق جلالة الملكة إليزابيث الثانية في طائرتها الملكية الخاصة ضمن الوفد الصحفي أثناء زيارتها الرسمية إلى الرياض عام 1979 تلبية لدعوة من جلالة الملك خالد. وحصل خلال هذه الزيارة على حديث خاص من جلالة الملكة لجريدة الجزيرة وهو أول حديث صحفي حصري خاص للملكة إلى الصحافة السعودية على ما يبدو. وإن كان العمير لم يسلم من غمز ولمز الصحف البريطانية من باب لقاءاته العفوية بمندوبي منظمة التحرير الفلسطينية في لندن.
تجربة العمير في رئاسته لتحرير مجلة "المجلة" وجريدة "الشرق الأوسط" مضمخة بالقصص والأحداث ذات الأبعاد السياسية المختلفة، والتي ربما ينتظر القراء الكشف عن تفاصيلها من صاحبها في وقت لاحق. لقد أصدرت جريدة "الشرق الأوسط" - في عهد العمير - جريدة الظهيرة خلال أيام حرب تحرير الكويت لمتابعة أخبار الحرب. كما أصدرت مجلة "الشرق الأوسط" الأسبوعية التي لم تخلُ من بعض المفاجآت.
لقد شهدت تجربة العمير الصحافية في لندن الحافلة والباذخة بعض التحديات التي كأنه كان يُراد لها التأثير على الصعود الصاروخي لصحافي سعودي مرموق كان نجمه يلمع في سماء الصحافة العربية. وربما كان مبعث هذا التحدي أن الصحافي العمير خرج من بيئة الجزيرة العربية أرض الرسالات والنفط والشعر الجاهلي! وليس من بلدان الأنهار والمنظومتين الصحفيتين الأقدم في العالم العربي (مصر ولبنان).
لكن العمير كسب التحدي بتوجهه إلى الصحافة الإلكترونية المستقلة، حيث أسس عام 2001 وفي مرحلة عربية دقيقة اتسمت بالعنف والإرهاب والأصوليات مشروع صحيفة (إيلاف) التي شقت طريقها كصحيفة مستقلة توطد مبادئ الحداثة والمدنية والسلام والاستقرار.
إن أكره ما يكرهه الصحفيون السعوديون هو عندما يسمعون عثمان العمير يصف نفسه برجل أعمال، بينما هم يريدون منه مواصلة مسيرته كمبدع ملهم للأجيال الصحافية الجديدة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.