: آخر تحديث

‏من أينشتاين إلى باب المندب - قناة السويس: فلسفة الزمن في الصراع البحري

5
5
2

‏بدأت في توظيف الفيزياء كأداة لاستنطاق الجيوبوليتيك في صُلب التفاعلات السياسية منذ فترة حيث أجد في مفاهيم الفيزياء أدوات تفسير أكثر عمقاً ودقة لفهم طبيعة القوة والسيطرة وإيقاع الهيمنة في العالم الحديث.
‏أحد المفاهيم التي أسرتني بفكرتها وقدرتها على تجاوز الحدود العلمية إلى الفضاءات الرمزية والسياسية، هو قانون النسبية الذي وضعه ألبرت أينشتاين.
لم يكن الزمن كما كنا نظنه كياناً ثابتاً مطلقاً ، بل كينونة مرنة تتشكل وفق الموقع والسرعة والسياق ، هذه الفكرة دفعتني للتساؤل:
‏ألا يمكن أن نطبّق ذات المفهوم على الجغرافيا السياسية؟
‏أليست السيطرة على الممرات المائية في جوهرها، هي تحكم بالزمن أكثر من المكان؟

‏ومن هنا جاءت رؤيتي: أن الممرات المائية، مثل باب المندب وقناة السويس، لم تعد مجرد معابر مائية (كنموذج لطبيعة الصراع الدائر الآن) بل مداخل زمنية تُعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية للعالم وفق مفهوم الزمن، حيث يجري  فيها الصراع على الزمن قبل أن يكون على المساحة الجغرافية. 

‏إذاً نسبية الزمن في الجغرافيا السياسية كما هو لدى أنشتاين يتجسد في كيفية انعكاس ذلك على عالم الاقتصاد العالمي المتسارع، فلم يعد التحكم بالمضيق البحري تحكمًا بموقع جغرافي فقط، بل أصبح تحكماً بزمن العبور وبالإيقاع الذي تتدفق به الطاقة، وتتبادل فيه البضائع، وتُرسم فيه استجابات الدول.

‏في هذه الحالة يتحول زمن العبور إلى سلاح جيوسياسي ، فعندما تُهدَّد قناة السويس أو يُخنق مضيق باب المندب، فإن التأثير لا يُقاس بعدد الكيلومترات البديلة ، بل بعدد الساعات المضافة على جداول التجارة العالمية، وبالمليارات التي تُنزف من أسواق الطاقة ، في منطق الفيزياء هذه "إضافة زمنية" وفي منطق الجيوبوليتيك، هي “أداة ردع” وبالتالي "رسالة قوة".

‏هنا تتحول الجغرافيا إلى توتراً زمنياً فمثلاً يقع باب المندب في صلب النزاع القائم في البحر الأحمر، وخصوصًا مع تصاعد التوتر في اليمن بين ميليشيا أقل من الدولة والفاعلين الإقليميين والدوليين فأصبح باب المندب والممر البحري ليس مجرد ممر بين قارتين، بل هو نقطة إبطاء أو تعطيل في زمن التجارة، حيث كل تهديد لملاحة السفن يتحول إلى تأخير في سلاسل التوريد وبالتالي إلى تعطيل في الأسواق.

‏إذاً  السيطرة على باب المندب أو حتى مجرد تهديده ينتج عنه  "تمدداً زمنياً" في حركة التجارة يشبه ما يحدث في نظرية النسبية حين تقترب من حقل جاذبية قوي فالزمن يتباطأ والتكاليف تتسارع .

‏والحال كذلك في قناة السويس فالزمن عامل رئيسي في  بنية القناة من الناحية الاستراتيجية
‏فهي لم تكن مجرد "قناة مائية" بل بديل استراتيجي  لرأس الرجاء الصالح  تُختصر بها الأيام والأسابيع ، وبالتالي بوابة تتحكم في السرعة التي يُضخّ بها الاقتصاد العالمي.

‏التهديدات الأخيرة في البحر الأحمر، وتراجع حركة السفن، أعاد إلى الواجهة سؤالًا عميقًا:
‏هل يكفي أن تمتلك قناة؟ أم يجب أن تضمن "استقرار الزمن الملاحي" لكي تحتفظ بموقعك الجيوسياسي؟

‏إن التحدي الأصعب يكمن في "جوهر السيطرة" لم يعد يكمن في الجغرافيا الصلبة، بل في القدرة على إعادة تشكيل "الزمن الفعّال" للممر. الدولة القوية هي من تملك مفاتيح التسريع أو الإبطاء قد لا تغلق الممر فعليًا، لكنها تملك القدرة على "إبطاء العالم" أو "إسراعه". وفي المقابل هنا فاعلية القدرة على حماية مصالحك من التهديد.
‏إنه تحول من "استراتيجية المكان" إلى "استراتيجية الزمن" ومن الجغرافيا إلى الزمكان.
‏ومن هنا فهم بنية القوة في القرن الحادي والعشرين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.