: آخر تحديث

ميتم "الطموح الهادئ"

3
2
1

في السنوات القليلة الماضية، لم يكن الإحساس العام بالحياة سوى ركامٍ من الخرسانة الباردة. كلمات كثيرة، تحاليل كثيرة، ضجيج أكاديمي وفكري يثرثر عن "هوة الأجيال"، وكأن المشكلة مجرد خلافٍ بين ذوقٍ قديم في الجينز وآخر جديد في تكنولوجيا "العمل عن بعد". ولكن خلف هذا الركام، تنام جثة مهجورة تُدعى الطموح، وخلفها شبحٌ يتسكع على أطراف المدن الكبرى، يُدعى الخيبة.

لقد اعتدنا، نحن الذين تنفسنا في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي وما قبلهما بالتأكيد، أن نُجلد بالسياط في بداياتنا المهنية ونحن نردد كالبلهاء: "التضحية تثمر". أما اليوم، فقد أدرك شباب ما بعد 2008 – ولا سيما بعد جائحة 2020 – أن هذا القول لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به.

يقول ألبير كامو: "العمل الذي لا تراه يوصلك إلى شيء، هو نوعٌ من العبودية، ولو بدا حراً".

هؤلاء الشباب لا يرفضون الحياة، بل رفضوا الحياة التي لا تعترف بهم. فهم لم يقرروا يوماً أن يعيشوا في مساكن مؤجرة إلى سن الأربعين، ولا أن يعيدوا تسخين المعكرونة الصينية في أفران ميكروويف مستأجرة. لقد طُردوا من جنّة "الاحتمالات"، ووجدوا أنفسهم في جحيم "الواقعية".

فمنذ العام 2008، انقطع الحبل السري الذي كان يصل بين التضحية والترقي. لم تعد السنوات المديدة في الزمالة الأكاديمية أو الوظائف الهامشية تعني شيئاً سوى مزيد من الإجهاد العقلي والراتب الضئيل. لم يعد السعي إلى الكفاءة هو المعيار، بل القدرة على التحمل الصامت تحت وطأة منظومة لا تراك ولا تسمعك.

في زمنٍ كانت فيه الشركات تطلب كل شيء مقابل لا شيء، أصبح الطموح رفاهية لا يجرؤ عليها إلا من ولد وفي فمه ملعقة من تأمين صحي وسكن مملوك. أما الباقون، فكتب عليهم أن يُحبِطوا، وأن يحترقوا في صمت.

ومع ذلك، هناك من يسمّيهم "كسالى"، أو يصفهم بأنهم "مدلّلون". وهناك من يراهم نرجسيين لأنهم لا يضحون بما يكفي لأجل الشركة التي لا تقدم لهم شيئاً سوى "قيم المؤسسة" المطبوعة على كوب قهوة بلاستيكي.

أين ذهبت البرجوازية المتوسطة التي وُعدنا بها؟ أين ذهبت الشقق الصغيرة في المدن الكبيرة التي كانت تشبه بداية فيلم فرنسي عاطفي؟ لقد تحولت إلى أوهام مؤجلة، ثم إلى نكتة، ثم إلى غضب مكبوت في صدور شباب لا يثقون في أحد، حتى أنفسهم.

لا عجب أن يصبح "الطموح الهادئ" الصيغة الجديدة للحلم: حلمٌ لا يُسمع له صوت، ولا يصنع فرقاً. لكنه في جوهره، ليس سوى كذبة مغلّفة بأدب، محاولة لخداع الذات بأن الإنسان ما زال سيد مصيره. والحقيقة أن "المصير" نفسه صار مدير موارد بشرية في شركة قابضة لا يعرف حتى اسمك.

وفي ظل هذا الانهيار الجماعي للقيم والمردودية، لا يمكن أن نلوم الشباب على انكسارهم، بل يجب أن نلوم المنظومة التي باعتهم "رؤية" بلا مستقبل، ومكاتب بلا معنى. من يعيش ليأكل أرزاً سريع التحضير تحت مصباح فلوريسنت، لا يمكنه أن يكتب قصيدة، ولا أن يربي طفلاً، ولا حتى أن يحلم بحديقة.

الاستنتاج المرّ؟ أن هذا الجيل لم يفشل في تحقيق الطموحات، بل فهم متأخراً أن الطموحات نفسها صارت "منتجاً مزيفاً". لم تعد النية الطيبة والجد والاجتهاد تثمر شيئاً سوى الإنهاك المزمن وفتور الروح. والكارثة أن "العمل" الذي لطالما ادّعى أنه يمنح الإنسان معنى، صار أداة لتجريده من المعنى ذاته.

يقول دوستويفسكي: "الذين يعيشون بلا أملٍ في الخارج، لا يمكن أن تُطلب منهم فضائل في الداخل".

لذا، حين نرى جيل اليوم وهو ينكمش، ويتقوقع على نفسه، لا يجب أن نراه ضعيفاً. بل يجب أن نراه جريحاً... ومرهقاً من الكفاح ضد طواحين هواء لم يُمكن له أن ينتصر عليها.

لن يعيش هؤلاء على الهواء. ولن يواصلوا السير في طريقٍ سدّته خيانات العصر. وإذا أردنا مستقبلاً أفضل، فإن البداية لن تكون في مكاتب الموارد البشرية، بل في خطاب الاعتراف بالفشل البنيوي، والسعي الجماعي لإعادة تعريف العمل كفعل إنساني، لا كعقوبة اقتصادية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.