كانت فترة الاستعمار الأوروبي وظهور الإمبراطوريات الاستعمارية من أكثر المراحل التي غيّرت وجه العالم حرفياً بدءاً من القرن 15 حتى القرن 20، يقول الكاتب هوارد زن مؤلف كتاب "تاريخ الشعب الأميركي": "الاستعمار كان دوماً يُقدَّم كرسالة حضارة، لكنه كان في الواقع رسالة استغلال"، أي أن الاستعمار لبس قناع التعليم والتطوير، لكنه في العمق كان طمعاً اقتصادياً وسلباً للموارد.
ويقول المؤرخ والسياسي الأميركي المجري الأصل جورج فريدمن: "الاستعمار لم يكن مغامرة جماعية، بل سباقاً دموياً بين لصوص يرتدون القفازات". والاستعمار بوجهه الحديث، أو ما يسمى بـ"الاستعمار الجديد" أو Neocolonialism، لم يعد يحتل أراضينا بالدبابات والمدافع والبارجات، بل أصبح يأتي ويُفرد له السجاد الأحمر بكل حفاوة وترحيب ببدلته الأنيقة على شكل بنك دولي أو شركة عملاقة، وأصبح يسلبنا أموالنا. الاستعمار الحديث هو نوع من السيطرة غير المباشرة التي تستخدم فيها الدول الكبرى الاقتصاد، والشركات متعددة الجنسيات، والإعلام العالمي، وحتى التعليم والثقافة والصحة والإدارة والتطوير والتنمية. والهدف الرئيسي ليس مساعدة الدول الناشئة على النهوض والتطور، بل هي صورة محسّنة أو محدّثة للاستعمار الدموي السابق؛ والهدف من ذلك التحكم بالدول وبشعوب العالم الثالث وتوجيهها ونهب ثرواتها دون تدخل عسكري مباشر.
في السابق، كان المستعمرون أوروبيين مثل بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، البرتغال، أما اليوم فتغيّرت أسماء المستعمرين ليحل محلهم صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وشركات متعددة الجنسيات. استعمارهم الحالي ليس بمراكب وأسطول بحري وجنود وآلة عسكرية، وإنما رقم مصرفي يُودَع في حساب الدولة المُستعمَرة، بشروط مجحفة تقضي بالحصول على أرباح تثقل كاهل الدول وتفقر الشعوب، وتوصية شبه مُلزمة بالاستعانة بشركات غربية محددة لتنفيذ المشاريع في الدول المُقترِضة. وهذا بدوره يفتح المجال للشركات الغربية للسيطرة على اقتصاد الدولة وفرض شروطها وخططها وأجنداتها الاستعمارية، حتى أصبحت دول العالم النامي في دوامة ديون ومصيدة اسمها "مساعدات دولية". يقول المفكر التونسي سمير أمين: "ما يقدمه صندوق النقد ليس مساعدات، بل أدوات استعمار جديدة بوجه مالي"، بمعنى آخر ما كان استعماراً بالسلاح أصبح استعماراً بالدفاتر والفوائد.
التأثير الثقافي والإعلامي، الأفلام، المسلسلات، وحتى الذوق العام، كله يتم تشكيله وفق رؤية القوى الكبرى، وأضحت الهيمنة الثقافية أداة للاستعمار. يقول الفيلسوف كوامي نكروما، زعيم استقلال غانا: "الاستعمار لم يخرج بل غيّر قفازاته"، أي أنه وبعد خروج المستعمر إلا أن الشعوب ما زالت مربوطة بخيوط غير مرئية. المشكلة أن الاستعمار الحديث يأتي بوجه جميل على شكل مساعدات واستثمارات وخطط تنموية، لكنه غالباً يحمل أجندات خفية، البعض يُدركها ولكنه غير قادر على رفضها، والبعض رفضها فحُورب اقتصادياً وسياسياً وعُزل عن العالم. يقول الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين: "إذا رأيتم فرنسا غير راضية عنا فنحن في الطريق الصحيح.. والعكس صحيح".
جوهر العقلية الاستعمارية الغربية التي تقول: نحن الفاهمون والمتقدمون والمثقفون، وباقي الشعوب عبارة عن مجموعة برابرة متخلفين يحتاجون أن نعلمهم كيف يعيشون. وهذه كانت بداية ظهور مفهوم خطير جداً اسمه "الاستعلاء الحضاري" أو Civilizational Superiority. فالمستعمر الغربي لم يكن يرى نفسه مجرد محتل، بل كان يرى نفسه منقذاً ومرشداً ومحضّراً للحضارة، حتى وإن كان ينهب ويسرق وينشر الجوع في أراضي الشعوب النامية. كان يقول: نحن جئنا لننشر النور في الظلام، ولكن في حقيقة الأمر هم كانوا ينشرون الدمار ويلبسونه قناع التنوير.
"عبء الرجل الأبيض" أو The White Man’s Burden، هي إحدى العبارات التي كان يرددها المستعمرون كمبرر لاستعمارهم، اخترعها الشاعر البريطاني روديارد كبلنغ، وكان يقصد فيها أن على الرجل الأبيض واجب حضاري تجاه بقية الشعوب الجاهلة، أي أن احتلال أفريقيا وآسيا صار واجباً نبيلاً.
المؤرخ إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق قال: "الغرب لم يدرس الشرق ليفهمه، بل ليُخضعه". فعلاً، كثير من الدراسات الغربية عن الشرق كانت تبني صوراً مشوّهة لتبرير الغزو الثقافي والسياسي. حضارتنا العربية والإسلامية علّمت العالم الطب، الفلك، الرياضيات، الفلسفة، في وقت كانوا هم يغرقون في ظلام العصور الوسطى.