ثمة لحظة مألوفة، لكنها عصية على التعريف: لحظة أن نفهم. لا أعني أن نعرف شيئًا جديدًا فحسب، بل أن ينشرح فينا ما كان مغلقًا، أن يتراجع الضيق والانقباض و"الانفعال"، ويتقدم فينا "الفعل" والمعنى كمن يفتح نافذة في غرفة خانقة. في تلك اللحظة، لا يكون الفهم معلومة تُضاف إلى رصيدنا الذهني، بل يكون كأنه تنفّس، كأنه انكشاف داخلي لشيء كان مستعصيًا.
بهذا المعنى، يبدو أن "الشرح" ليس مجرد فعل ذهني أو سلوكي، بل هو حدث وجودي يشمل كامل الكينونة. أن يُشرح لك شيءٌ ما، يعني أن تتغير علاقتك به، أن تتوسع رؤيتك نحوه، أن يصبح لك فيه مجال تتحرك فيه بحرية أكبر. ولذلك لا غرابة أن يقول الله عز وجل للنبي ﷺ في مطلع سورة مكية: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾. فالشرح هنا لا يعني فقط إزالة الحرج، بل توسيع الصدر ليصير مقامًا للرسالة، حاضنًا للوحي، متقبلًا لما هو أكبر من طاقة النفس العادية.
لكن الأجمل أن هذه الفكرة لا تقتصر على تلك الآية. ففي أول لقاء بين النبي والوحي، كانت الكلمة الأولى تحمل فعل أمر وهو: ﴿اقرأ﴾. ومع ذلك، لم يستجب النبي فورًا، بل قال: "ما أنا بقارئ". لم يكن الأمر مفهومًا، ولم يكن الصدر قد شُرح بعد. لكن حين جاء الإكمال: ﴿باسم ربك الذي خلق﴾، بدا كأنه شرح لما سبق، لا شرحًا نحويًا، بل شرح وجودي، ربط الفعل بمصدره، فتح في قلب النبي بابًا للتلقي. هنا بدأ الفهم، وبدأ الانشراح، ولو ببطء. لم تكن الاستجابة للفظ، بل للمعنى الذي انبثق منه.
الشرح، إذًا، ليس نقلًا للمعرفة، بل توسيع للأفق الداخلي. هو فتح لمساحة الوعي، وهو ما يثمر لاحقًا في الانشراح. والانشراح لا يكون فقط إحساسًا بالراحة، بل انعكاسًا مباشرًا لهذه التوسعة. إنه العلامة التي تترتب على حدث الفهم، كما أن الضوء يتبع فتح النافذة.
الشرح تجربة عينية، نعيشها في أجسادنا وانفعالاتنا، حتى قبل أن نعيها. حين يُشرح لنا أمرٌ ما، فإننا لا نضيف لذاكرتنا معلومة فحسب، بل نعيد تشكيل علاقتنا بالموضوع، نحرّك المعنى من موضعه المغلق إلى موضعه المفتوح. وربما لهذا السبب يمكن للطالب أن يشرح أفضل من معلمه أحيانًا، لا لأن معلوماته أكثر، بل لأن تجربته في العبور من الغموض إلى الفهم لا تزال طازجة، نابضة، قريبة من الحياة.
الشرح الجيد لا يقول: "هذا هو المعنى"، بل يقول: "هكذا يمكن للمعنى أن يُرى". ومن هنا يدخل التأويل. فالتأويل لا يلتقط المعنى كشيء جامد، بل ينخرط في حركته. هو استجابة للانفتاح، لا لليقين. والشرح التأويلي لا "يُبسّط"، بل يُنير و"يبْسِط".
وإذا رجعنا إلى اللغة، وجدنا أن فعل "شرح" من حيث الأصل يدل على الفتح والتوسعة، كما نقول: "شرح الله صدره"، أي بسطه ووسّعه ليحتمل. وهو معنى يقترب من فعل "بَسَطَ"، الذي يعني أيضًا: مدّ، ونشر، وأطال. لكن ثمة فرقًا مهمًا ينبغي تأمله.
فـ "بَسَطَ" (بفتح السين) يدل على التوسعة والانكشاف، على الامتداد في المعنى أو في الشيء. أما حين نقول "بَسَّطَ" (بتشديد السين)، فإن المعنى ينقلب إلى شيء آخر: إلى التقريب، التسهيل، وأحيانًا الاختصار، بل والقبض وما يلحقه من انقباض ناتج عن القلق من الانحراف عن شيء محدود وضيّق. فنحن نبسط القول إذا توسعنا فيه، لكننا نبسّط الفكرة إذا اختصرناها وجعلناها أقرب للفهم؛ مع ما يحمل ذلك من تأطير وتضييق.
وهذا الفارق، على دقّته، ليس لغويًا فحسب، بل يحمل تأويلاً مهمًا في تجربة الفهم نفسها. فالشرح كما يظهر في لحظة انشراح الوعي، ليس دائمًا "تبسيطًا" بالمعنى التقريبي، بل هو أقرب إلى "بسط" بالمعنى الوجودي: أن يُمدّ لك المعنى، أن يُفرش أمامك طريق الفهم، أن يُفتح فيك مجالٌ كنت تجهله.
فالتبسيط قد يخفي أحيانًا عمق التجربة، حين يُختزل الغموض في عبارات سهلة. أما الشرح الحقيقي، فحتى حين يقرّب، فإنه لا يُختزل، بل يحتفظ بشيء من التوتر، من الصراع مع المعنى، من المسافة التي نقطعها في أنفسنا لنفهم. وهذا هو ما يُحدث فينا "الانشراح"، لا لأنه اختزال، بل لأنه فتح.
الانشراح، في ضوء هذا، ليس شعورًا نفسيًا فقط، بل أثر وجودي يدل على أن شيئًا ما قد تحوّل في داخلنا. وكأن الفهم - حين يتحقق - لا يُضيف، بل يُبدّل: يبدّل علاقتنا بذواتنا، وبما حولنا.
ولذلك، فالشرح هو حركة نحو الانشراح. هو جسر من الضيق إلى الفسحة، من التوتر إلى السكينة، من التشتت إلى التركيب. ولعل هذا ما يجعل التعليم الحق تجربة إنسانية بالغة الأثر: لا لأنه يُعلّم، بل لأنه يشرح.. أي يوسّع، ويؤوّل، وينقلنا من الظلمة إلى السعة.