: آخر تحديث

الأجهزة التي تفكر: هل نحن على أعتاب نهاية الهواتف الذكية؟

18
16
11

في لحظة مفصلية من تاريخ التكنولوجيا، أعلن كل من سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ OpenAI، وجوني آيف، أسطورة التصميم ومهندس منتجات Apple الأيقونية، عن ولادة مشروع جديد تحت اسم (io). قد يبدو الاسم بسيطاً، لكنه يخفي خلفه ثورة معمارية في تصميم أجهزة الحوسبة الشخصية، قادمة من رحم التعاون بين عقل الذكاء الاصطناعي ورؤية التصميم الإنساني.

ما تم الإعلان عنه أكبر من مجرد تعاون آخر بين شركتين، بل ولادة فلسفة جديدة تعيد التفكير في علاقة الإنسان بالأجهزة.

شركة OpenAI استحوذت بالكامل على شركة io التي أسسها جوني آيف، بصفقة بلغت 6.4 مليار دولار، في خطوة تتجاوز الاستثمار التقليدي لتصل إلى التحول البنيوي في مفهوم (الجهاز). وهذا ليس مجرد تطوير منتج، بل تصور جديد لما ينبغي أن تكون عليه الأجهزة التي نتفاعل بها كل لحظة في حياتنا.

لطالما كانت واجهات الحوسبة انعكاساً للعصر الذي وُلدت فيه، من الأزرار والمفاتيح إلى الشاشات اللمسية، ثم الأوامر الصوتية. ولكن المشروع الجديد لا يعيد فقط ترتيب واجهة المستخدم، بل يعيد تعريف الجهاز ذاته؟

بحسب ما أُعلن، فإن الهدف من المشروع هو دمج الذكاء الاصطناعي في تصميم جهاز جديد كلياً يتجاوز مفاهيم الهاتف المحمول واللابتوب والتابلت. جهاز يُفكّر، يتفاعل، يتعلّم، ويُصمَّم منذ اللحظة الأولى ليكون امتداداً للوعي البشري، لا مجرد أداة بين يديه.

سام ألتمان قالها بوضوح: ليست الغاية أن نصنع جهازاً أذكى، بل أن نعيد اختراع العلاقة بين الإنسان والآلة!

وهذا التصريح كافٍ لإدراك مدى الرغبة في كسر القوالب. ما كان يُعدّ حداثياً بالأمس (الهواتف الذكية مثلًا) أصبح قديماً، لأنه يعتمد على واجهات تفترض أن المستخدم هو من يفكر والجهاز هو من ينفذ. لكن في المشروع الجديد، الجهاز سيكون شريكاً في التفكير، وليس مجرد منفّذ.

ما يميز هذا المشروع أن جوني آيف لا يرى الجهاز من حيث الأزرار والحواف والانحناءات، بل من حيث (الحضور): كيف يشعر الإنسان تجاه ما يحمله؟ كيف يمكن أن ينسى أنه يتفاعل مع جهاز؟ كيف يُبنى الحاسوب لا ليتحدث، بل ليُصغي؟ هنا، يدخل الذكاء الاصطناعي كعنصر عضوي في التصميم، لا كخدمة لاحقة يتم إضافتها. إنه نسيج مدمج في النبض التفاعلي للجهاز منذ لحظة التشغيل.

قد يبدو هذا الخطاب مستقبلياً، لكنه يحمل جذوراً واقعية، فعلى مدار السنوات الماضية، تم تدريب نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على إدراك اللغة والسياق والنوايا. وهذه النماذج لم تعد تنتظر أوامر المستخدم، بل باتت تتوقع حاجاته وتستجيب لها قبل أن يُفصح عنها. ما ينقصها فقط هو الوعاء الفيزيائي الذي يحتويها. وهذا بالضبط ما تحاول io صنعه: الوعاء الذي يُنهي عصر (الشاشة) ويبدأ عصر (الرفيق الذكي).

المفارقة أن هذا المشروع لا يطمح لتطوير هاتف جديد، بل لقتل الهاتف. لأن الهواتف الذكية كما نعرفها أصبحت متخمة بالتطبيقات، متعبة في التفاعل، ومربكة في الأولويات. الجهاز الجديد يجب أن يكون شفّافاً في حضوره، حاضراً بذكائه، متوارياً في تصميمه، لا يسرق من الإنسان انتباهه، بل يعيد له تركيزه.

ولهذا وصف البعض io بأنها (عائلة من الأجهزة) وليس جهازاً واحداً، رؤية متعددة الأبعاد لمنظومة متكاملة من الأدوات الذكية، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتخلق تجارب بشرية طبيعية، وليس فقط تقنيات مُبهرة. من المتوقع أن تشمل هذه العائلة أدوات يتم ارتداؤها، وأجهزة مكتبية، وربما حتى أدوات منزلية، لكن جميعها مرتبطة ببنية موحدة في الجوهر: التفكير قبل التشغيل، التفاعل قبل اللمس، والشعور قبل الأمر.

التحدي الأكبر هنا ليس فقط تقنياً، بل فلسفياً. نحن أمام لحظة يسأل فيها المصمم والمبرمج والعالِم سؤالاً وجودياً: ما هو الجهاز؟ وهل يمكن أن يُعاد بناؤه من الصفر، لا بناءً على الإمكانيات، بل على الاحتياجات النفسية والعاطفية والفكرية للبشر؟ هل يمكن لجهاز أن يكون مرافقاً، لا مشتتاً؟ معيناً، لا مستهلكاً؟ هذه الأسئلة هي قلب المشروع، وليست تفاصيل جانبية.

النقلة التي نراها اليوم تشبه ما فعله جوني آيف سابقاً حين أعاد تصور الهاتف الذكي، لكنها أعمق. لأن الآن، الجهاز لا يُصمم ليُستخدم فقط، بل ليصاحب المستخدم، يفهم عاداته، يتنبأ بمشاعره، ويضبط ذاته بناءً على المزاج والإيقاع الحياتي للمستخدم. إنها ليست طفرة في التصميم، بل في (الوجود التكنولوجي).

الأثر المتوقع لهذا التحول قد يتجاوز الأجهزة ذاتها ليشمل الطريقة التي نتفاعل بها مع الواقع، والتي نُدرك بها ذواتنا. لأن جهازاً كهذا، لا ينقل لك الرسائل أو يعرض لك الصور فحسب، بل يشاركك قراراتك، يساعدك في صياغة يومك، يحاورك حين تفتقد الحديث، ويصمت حين تدرك حاجتك للعزلة.

قد يرى البعض هذا التطور تهديداً للخصوصية، وقد يكون كذلك. لكنه في الوقت ذاته، فرصة لتصميم خصوصية جديدة، أكثر دقة، تُدار عبر شيفرات الذكاء الاصطناعي لا قواعد الإعلانات المستهدفة. الخصوصية التي تُبنى على الفهم لا على المراقبة، على الثقة لا على الخوف.

شخصياً، أعتقد أنَّ مشروع (io) ليس مجرد صفقة بين شركتين، بل إعلان حرب على الركود المفاهيمي في تصميم الأجهزة. إنه المشروع الذي قد يُطلق سباقاً عالمياً جديداً، لا لصنع أسرع معالج أو أعلى دقة شاشة، بل لصنع أذكى رفيق بشري… جهاز لا تُمسك به يدك، بل يمسك هو بروحك التكنولوجية. وإذا كنا نسأل دائماً عن مستقبل الذكاء الاصطناعي، فإن هذا المشروع يجيبنا: المستقبل لن يكون في الكود فقط… بل في الجسد الذي يسكنه هذا الكود.

إنه عصر جديد… فيه الجهاز يفكر، ويشعر، ويصمم ليكون امتداداً حقيقياً للإنسان، لا مجرد انعكاس رقمي له.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.