في سابقة لم تعرفها دول الخليج العربي تقوم إسرائيل بقصف الدوحة بغية اغتيال وفد حماس التفاوضي. ما خلف ستة شهداء جرّاء هذه العملية الغادرة الجبانة، بحسب التوصيف القطري الرسمي لها. وهي بلا شكّ تنطوي على جميع مواصفات الغدر وممكناته؛ فقطر دولة ذات سيادة، ولها علاقات وتمثيل دبلوماسي متبادل بينها وبين إسرائيل. والأهمّ أنّها ترعى المفاوضات الجارية بين حماس وإسرائيل منذ أكثر من سنتين. وهي رعاية بطلب أميركي ومباركته.
وأمّا أخطر ما في الحادثة أنّ وفد حماس كان يناقش مقترحاً أميركياً، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد قدّمه. وهذا يعني أنَّ هناك مكيدة تكسر كلّ الأعراف الأخلاقية، وتنتهك جميع المواثيق الدولية المعروفة والمرعيّة. وليس ذلك وحسب بل إنّها تعدّ سابقة في تاريخ الولايات المتحدة، أنْ تكون صاحبةَ مبادرة من جهة، ومن جهة أخرى تسمح باغتيال الوفد الذي يناقش مقترحها؛ فهي سابقة مشينة ووصمة عار في سجلّ التاريخ الأميركي السياسيّ، هذا التاريخ المزدحم بالسوابق المشينة التي تزينّ رصيده الكولونيالي.
ومن جانب آخر فإنَّ إسرائيل لم تعتذر، بل لقد أكّد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو على أنّ قادة حماس هدف مشروع لهم وأنّهم لن يتردّدوا عن استهدافه أينما ومتى سنحت لهم فرصة أخرى. وهذا ما قاله عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات الإسرائيلية ونائب قائد سلاح الجو سابقاً، إذ أثنى - في مقابلة على قناة CNN - على الضربة وهاجم دولة قطر التي وصفها بأنها دولة تدعم الإرهاب وترعاه.
لكنَّ جوهر القضية ليس فيما فعلته إسرائيل وما هو دور أميركا فيه؛ إنما الجوهر في موقف دولة قطر وما يجب عليها من إعادة النظر في سياساتها ونهجها الدبلوماسي والإعلامي. فلقد تنطّعت خلال أكثر من عقدين لقضايا ومعضلات دولية تفوق قدراتها ومكانتها الجيوسياسية. وقد اشتبكت مع محيطها وخارج محيطها، وكانت عامل قلقلة لكثير من أحداث المنطقة. وراهنت على بعض الأحزاب السياسية التي لها – كذلك الأمر – سجل سياسي حافل بالمشاكل والصراعات. وانحازت السياسة القطرية لدول إقليميّة على حساب أشقائها وخليجها، وهذا – ربما – يعود لارتهانها لأيديولوجيات طوباوية لا تواكب متطلبات هذا العصر وراهنه الحضاري والسياسي. فعليها أن تعيد النظر بسياساتها وأن تكون عامل استقرار لا قلقلة، لأنّها ربّما تكون ضحية من ضحايا هذه القلقلة. وفي هذا ستكون خسارة كبيرة لنهضة المنطقة والخليج ومحيطها العربي؛ فدولة قطر حقّقت من الإنجازات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية ما يحتّم عليها التروّي وعدم المغامرة بتلك المنجزات القيّمة.
وعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومدركين لواقعنا؛ فليست قطر وحدها المستهدفة. إنّها عمليّة تستدعي ردّاً عربيّاً حازماً ومدروساً. والأهم أنّها تستدعي – كذلك – إعادة نظر في مجمل العلاقات الخليجية الأميركية إلى حين انقضاء فترة ترامب، هذا الرئيس الذي لا يتوانى عن التمادي على أي حليف إن قدر أو استطاع إلى ذلك سبيلاً. ويجب أن يكون للعرب عامة ولساسة الخليج خاصة عِبرة سياسية من سلوك ترامب مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي خاصّة، وغيره من الزعماء عامّة، كما يجب أن يكون في سلوك زيلينسكي عِبرة أخرى نأخذها في التعامل مع رئيس لا يراعي إلا القوّة والندية.
وأمّا فكرة السلام مع إسرائيل وتمتين عرى التطبيع نحوها، فلا مناص من إعادة تقييمها وبرمجتها على نحو جذريّ جديد ومختلف، في منطقة نحن تكوين طبيعي فيها ولسنا دخيلاً عليها.
كانت قطر في المرّة الأخيرة، وهي لن تكون الآخِرة إلّا إذا تغيّرت معطيات الواقع، وإلّا فلا مأمن من الأسوأ.