يُقال إنَّ الحكمة تكمن في القدرة على قراءة المشهد قراءةً متأنية لا تخدعها الشعارات الرنانة، ولا تضللها العواطف الجياشة. وفي خضم هذا المشهد المعقَّد الذي يتشكّل على أرض غزة، تبدو الحاجة ماسةً إلى قيادة تمتلك هذه الحكمة، قيادة قادرة على اتخاذ قرار تاريخي قد يكون مؤلمًا، ولكنه حتميُّ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد طالت الحرب على قطاع غزة، واشتدّت وطأتها، وتحول القطاع إلى ما يشبه مدينة أشباح يسكنها الأنين والألم.
ما نشهده اليوم ليس مجرد عملية عسكرية، بل هو تدمير ممنهج للحياة والبنية التحتية، واستهداف للبشر والشجر والحجر. لقد تجاوز الاحتلال كل الخطوط الحمراء، ولم يعد يكترث بأي ضوابط أخلاقية أو قانونية. وما يجري في القطاع الآن ليس جولةً جديدة من الصراع فحسب، بل هو محاولةٌ إسرائيلية واضحةٌ لإنهاء أي وجود فلسطيني في غزة، إما عبر إبادةٍ جماعية ممنهجةٍ أو عبر تهجيرٍ قسري. وفي خضم هذه الكارثة الإنسانية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، تبرز مسؤولية تاريخية وأخلاقية على عاتق من تبقّى من قيادة حماس داخل القطاع.
الرسالة التي يجب أن تصل إليهم هي رسالة مباشرة وواضحة: إن قرار مواصلة القتال ليس قرارًا يعود إلى طرف واحد، بل هو قرار ندفع تكاليفه من دم أطفال غزة، ومن ركام بيوتها، ومن مستقبل أجيالها. فهل من الحكمة أن نواصل القتال ونحن نعلم أن ميزان القوى مختلٌّ بشكل كبير؟ وهل من البطولة أن نضحّي بشعبٍ بأكمله من أجل إثبات وجهة نظر أو لتحقيق نصرٍ وهمي؟ لا شكّ أن القيادات السياسية لحركة حماس التي تقعُ في الخارج تتحمّل جزءًا من المسؤولية؛ فعلى بُعد الواقع المرير الذي يعيشه شعب غزة، تصدر تصريحات وبيانات لا تراعي حجم الكارثة، ولا تُقدّر حجم الألم والمعاناة. لقد حان الوقت ليتحمّل هؤلاء المسؤولية، ويتخلّوا عن لغة الشعارات، ويعودوا إلى الأرض والواقع، ويدركوا أن استمرار هذه الحرب لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر والدمار.
لا يمكن لأحد أن ينكر ما قدّمته المقاومة من تضحياتٍ وبطولات، ولا يمكن تجاهل صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري. ولكن في الوقت ذاته، يجب الاعتراف بأن الواقع على الأرض قد تغيّر، وأن الضغوط الدولية والإقليمية تتزايد، وأن الاحتلال قد أصبح أكثر وحشية وتجردًا. وفي ظل هذا الواقع، تصبح الحاجة ملحّةً إلى خيارٍ عقلاني يضع حياة الناس فوق كل اعتبار. القيادة الحقيقية هي تلك التي تمتلك الشجاعة الكافية لاتخاذ قرار يخدم مصلحة الشعب، حتى لو تعارض ذلك مع التوقعات والآمال.
التوقيع على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، والسعي إلى حلٍّ سياسي ينهي هذه الحرب المدمِّرة، ليس استسلامًا، بل هو انتصار للإنسانية، وانتصار للحكمة، وانتصار لإرادة الحياة للشعب الفلسطيني. والتاريخ لن يذكر هؤلاء القادة بأنهم تراجعوا، بل سيذكرهم بأنهم كانوا قادةً حكماء أنقذوا شعبهم من براثن الموت والدمار.
نحن اليوم أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن تستمر هذه الحرب لتفني ما تبقّى من حياة في قطاع غزة، أو أن يُتّخذ قرار شجاع وحكيم لوقفها. ورسالتنا إلى من تبقّى في القيادة داخل القطاع هي أن يفكّروا جيدًا، وأن يقارنوا بين خيارين: خيار مواصلة القتال الذي لا يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر، وخيار التوقيع على اتفاق ينهي هذه الحرب ويعيد الأمل إلى شعب غزة. فالتاريخ سيسجل كل خطوة وكل قرار، وأبناء شعب غزة سيتذكّرون من وقف معهم في محنتهم، ومن ضحّى من أجلهم. اجعلوا من هذا القرار قرارَ العقل لا قرارَ العاطفة، واجعلوه قرارَ إنقاذٍ لا قرارَ تضحية.