: آخر تحديث

كيف أعادت الصحافة الرقمية كتابة قواعد اللعبة عالمياً؟

1
1
1

كانت رائحة الحبر الطازج على الورق المصقول تُشكل طقساً صباحياً لملايين القراء. لكن فجأة، انقلبت المعادلة. لم يعد الأمر مجرد منافسة، بل أصبح تحولاً وجودياً. وفاة جريدة "الحياة" وإغلاقها النهائي في 2020 لم تكن مجرد خبر، بل كانت نهاية رمزية لحقبة كاملة من الصحافة الورقية. هذا المشهد المتكرر في العالم العربي ليس استثناءً، بل هو جزء من تحول عالمي طال عمالقة الصحافة في الغرب أيضاً. والسؤال: كيف نجح من نجح في هذه المعادلة الصعبة، بينما انهارت رموز عريقة؟

لم تنجح "سبق" و"إيلاف" لأنها كانت مواقع إلكترونية فحسب، بل لأنها فهمت أن سر الصحافة اليوم هو امتلاك الاهتمام، وليس امتلاك المطبعة. لكن هذا النموذج الذي أثبت نجاحه محلياً، كان قد اختُبِرَ وعُولِجَ على مستوى العالم بنجاحات مبهرة وفشل ذريع.

النموذج الأبرز عالمياً هو صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية. هذه الصحيفة العريقة التي تأسست عام 1851، كانت على حافة الهاوية في العقد الماضي مع انهيار الإعلانات الورقية. لكن تحولها الاستراتيجي نحو الاشتراكات الرقمية أنقذها وغير مستقبلها. اليوم، يبلغ عدد مشتركيها الرقميين أكثر من 10 ملايين مشترك، وتُشكل إيرادات الاشتراكات العمود الفقري لماليتها، متجاوزةً الإعلانات لأول مرة في تاريخها. كيف فعلت ذلك؟ قدمت محتوى عالي الجودة، حصري، وتحقيقات استقصائية عميقة، بالإضافة إلى وسائط متعددة مثل الألعاب التفاعلية والبودكاست "The Daily" الذي يجذب الملايين، مما جعل المستخدم مستعداً للدفع مقابل هذه القيمة المضافة.

وفي بريطانيا، قدمت مجموعة فاينانشال تايمز (FT) درساً في التحول الذكي. هي الأخرى صحيفة ورقية عريقة (تأسست 1888)، ولكنها استثمرت بقوة في البيانات والتحليلات المالية العميقة، وبنيت جداراً صلباً حول محتواها. الآن، أكثر من 80% من إيراداتها تأتي من الاشتراكات الرقمية. لقد فهمت أن جمهورها يدفع مقابل رؤية وتحليلات لا يجدها في مكان آخر.

أما على مستوى المجموعات الإعلامية، فإن مجموعة أكسل شبرينغر الألمانية هي مثال ساطع. بدأت كناشر تقليدي، ولكنها تحولت إلى عملاق إعلامي رقمي. قامت بشراء منصات رقمية بحتة مثل "Business Insider" و "Politico"، وطبقت نموذج "الدفع مقابل المحتوى" بنجاح على معظم منصاتها، مما جعلها واحدة من أنجح شركات الإعلام في أوروبا.

في العالم العربي، المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق تمثل النموذج المحلي لهذا التحول العالمي. لم تكتفِ بالمطبوعات، بل انطلقت لتأسيس إمبراطورية إعلامية متعددة الوسائط: من التلفزيون إلى الراديو، والبودكاست، والمنصات الرقمية. لقد حوّلت نفسها من "ناشر" إلى "صانع محتوى" على كل المنصات، مما وفر لها تدفقات إيرادات متعددة.

الحقيقة الجوهرية التي تكشفها هذه النماذج هي: لم يمت الإعلام الجاد، بل الذي مات هو نموذج العمل القديم. النجاح لم يكن حليف من انتظر، بل من تحول بجرأة. "الحياة" كانت ضحية انتظار طويل ورفض للتحول، بينما نجحت "نيويورك تايمز" و "المجموعة السعودية" لأنها قبلت التحدي وذهبت إلى حيث جمهورها: إلى شاشة هاتفه. الصحف التي بقيت تنتظر وصول القارئ إلى باب البيت، مثل "الحياة"، وجدت أن الباب قد أغلق إلى الأبد. أما التي ذهبت إلى جيب هاتفه، فقد وجدت عالماً من الفرص لا ينتهي.

غير أن هذا التحول لا يعتمد على الإرادة الذاتية للمؤسسات فقط، بل يحتاج إلى بيئة تشريعية داعمة. فالكثير من الأنظمة والتشريعات الإعلامية في عالمنا العربي لا تزال مُصممة لعصر المطبعة والورق، مما يخلق عبئاً إضافياً يعيق تحرك هذه المؤسسات. أصبح من الضروري إعادة النظر في هذه الأطر القانونية لتكون أكثر مرونة وتواكب العصر الرقمي. يجب أن تسمح هذه التشريعات للمؤسسات الصحفية بالتحرك بحرية أكبر نحو التحول الرقمي، وتشجيع الاستثمار في المحتوى الجديد، وتمكينها من خلق نماذج عمل مبتكرة تضمن استدامتها المالية. فقط يمكن خلق مساحة حقيقية لهذه المؤسسات للتنفس والمنافسة، ليس فقط في البقاء، بل في الازدهار مرة أخرى ضمن المشهد الإعلامي الجديد.

 

 

--

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.