لم تعد الغارة الإسرائيلية على الدوحة حدثاً عابراً في مسار الصراع مع حركة حماس، بل تحولت إلى مؤشر على تغيرات عميقة في بنية العقائد العسكرية في المنطقة، خصوصاً حين تُقرأ من منظور مزدوج: العقيدة الأمنية الإسرائيلية من جهة، والعقيدة الخليجية الناشئة من جهة أخرى.
إسرائيل اعتمدت منذ عقود على ما يُعرف بـ"العقيدة الدفاعية الوقائية" القائمة على الردع المبكر وضرب الخصوم قبل أن يشكلوا تهديداً مباشراً. غير أن السنوات الأخيرة شهدت نقلة نوعية مع تبني مفهوم “الدائرة الثالثة”، الذي يوسّع نطاق العمليات ليشمل إيران واليمن والقرن الأفريقي. شراء طائرات التزود بالوقود جواً، والاستثمار في برامج سرية لتعزيز التفوق النوعي، يعكس انتقال العقيدة الإسرائيلية من حدود الدفاع القريب إلى فضاء الردع البعيد. الغارة على الدوحة، التي استهدفت وفداً من حماس على مسافة تتجاوز 1750 كيلومتراً من القدس، كانت الترجمة العملية لهذا التحول، ورسالة بأن إسرائيل قادرة على خوض حرب متعددة الجبهات خارج محيطها التقليدي.
أما العقيدة العسكرية الخليجية، فقد نشأت في سياق مغاير، حيث اعتمدت على التحالفات الدولية والمظلة الأمنية الأميركية لتأمين الاستقرار وحماية مصادر الطاقة والممرات البحرية. فهي عقيدة دفاعية بالدرجة الأولى، تركّز على بناء القدرات التقليدية، وتستند إلى الردع عبر الشراكات لا عبر التفوق الذاتي. لكن غارة الدوحة فتحت باب الأسئلة الصعبة: هل يكفي الرهان على الولايات المتحدة بعد أن سمحت أو تغاضت عن استهداف حليف استراتيجي لها مثل قطر؟ وهل يمكن الاستمرار في اعتماد عقيدة دفاعية مرتهنة للغير، بينما خصم مباشر يعلن استراتيجيته في فضاء يمتد ليشمل العمق الخليجي؟
هذا التناقض بين العقيدتين يفرض معادلة جديدة. فالعقيدة الإسرائيلية تسعى لتوسيع مجالات النفوذ الجوي والسيطرة الاستباقية، بينما العقيدة الخليجية لا تزال في مرحلة البحث عن التوازن بين الاعتماد على الحماية الخارجية وبناء القدرات الذاتية. الغارة الإسرائيلية على الدوحة دفعت بدول الخليج إلى إدراك أن العقيدة الدفاعية التقليدية لم تعد كافية، وأن الحاجة إلى تطوير عقيدة خليجية موحدة باتت أكثر إلحاحاً، تقوم على الردع الذاتي، التكامل العسكري، وبناء شراكات متوازنة بدلاً من الارتهان لمظلة واحدة.
على المستوى السياسي، هذا التطور لا يهدد فقط المفاوضات المرتبطة بقطاع غزة، بل يضع اتفاقات أبراهام في مأزق ويجعل انضمام دول جديدة إليها أكثر صعوبة. فالقصف الذي استهدف عاصمة عربية حليفة للولايات المتحدة قوض الثقة، وأظهر هشاشة المعادلة الأمنية التي طالما بُنيت على التوازن الأميركي.
إن ما جرى في الدوحة هو في جوهره مواجهة بين عقيدتين: إحداهما هجومية توسعية تسعى لفرض معادلة الردع الممتد، والأخرى دفاعية تبحث عن مظلة حماية خارجية. وفي ضوء ذلك، قد يكون الدرس الأبرز أن مستقبل الأمن الخليجي لن يُبنى على التحالفات وحدها، بل على صياغة عقيدة جماعية قادرة على التكيف مع المتغيرات، والانتقال من الدفاع السلبي إلى الردع الإيجابي، بما يضمن أمن المنطقة واستقرارها في ظل تحولات عميقة تشهدها بنية الصراع الإقليمي.