: آخر تحديث

​​​​​​​حول مفهوم الصدفة والسبب والضرورة

6
7
5

في لحظةٍ عبثية من هذا الوجود، تعثّرت ذرّة غبار بأخرى، فسقطت مجرّةٌ من مكانها، وانعطف كوكب، وولد شاعرٌ في حانة. هذه هي الصدفة. أو هكذا على الأقل نقول كي لا نصاب بالجنون.

لكن ما هي الصدفة حقًا؟ أهي غلطة في شيفرة الكون؟ أم اختراع إنساني للتملّص من تفسير ما لا يُفسَّر؟ يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: "العبث هو صراع الإنسان مع صمته ولامبالاة الكون."، والصدفة هي لحظة هذا الصراع حين يرتطم الرأس بالجدار وتضحك الجدران.

نقول "بالصدفة" حين نعجز عن رسم الخريطة التي قادتنا إلى هذه اللحظة. التقيت بها "بالصدفة"، وفزت في اليانصيب "بالصدفة"، وسقطت الدول، وقُتل الناس، وسقطت الكراسي الوزارية – كلها "بالصدفة". لكن كما يقول سارتر، لا توجد صدفة، بل يوجد جهلنا بالأسباب.

في الواقع، نحن نحبّ الصدفة لأنها تُبرّئنا من التورط. تُريحنا من سؤال "لماذا؟"، وتمنحنا عذرًا مجانيًا. الصدفة هي الأم الرحيمة للفوضى، والأب الحنون للفن.

لو كانت الصدفة أنثى خفيفة الظل، فالسبب هو عجوز ثقيل الظل، يرتدي نظارات سميكة ويمسك دفتر ملاحظات. "لماذا فعلت ذلك؟"، يسأل. "ما السبب؟"، يكرر. وكأننا دومًا ملزمون بتفسير كل صرخة، وكل قبلة، وكل انتحار.

إقرأ أيضاً: مثل النمل

السبب هو ما يجعل الشرطي يدوّن محضرًا، ويجعل الطبيب يكتب وصفةً، ويجعل الفلاسفة يتعاركون حول المفاهيم. لكنه ليس دائمًا شريفًا. أحيانًا، هو مجرد صدفة حصلت على تعليم عالٍ.

قال أرسطو: "السبب هو المبدأ الأول لأي شيء." جميل. لكن ماذا عن الأشياء التي تحدث لأننا لم نكن نعرف ماذا نفعل؟ ماذا عن القرارات التي اتخذناها لأن البيت كان باردًا؟ أو لأن الرسالة لم تصل؟ أو لأن الحذاء كان ضيقًا؟ هل هذا سبب؟ أم نكتة كونية؟

في عالم يتسابق فيه العقل لتفسير كل شيء، يغدو السبب حبل مشنقةٍ نربط به أعناق اللحظات البريئة. نحتاجه، نعم. لكنه – ويا للعجب – لا يحتاجنا.

الضرورة ليست الصدفة، وليست السبب. إنها القاضي الذي ينزل الحكم ثم يبتسم لك ويقول: "كان لا بدّ أن يحدث هذا." الضرورة هي صوت القدر حين يتحدث بلغة رياضية باردة، تخلو من النكتة والندم.

قال هيجل: "الحرية هي وعي الضرورة." عظيم. لكن ماذا لو لم نرغب في الوعي؟ ماذا لو أردنا فقط أن نحيا دون خريطة، دون أصفاد الأسباب، ودون دفتر حضور الضرورة؟

إقرأ أيضاً: في مديح الضياع

الضرورة تعني أن ما حدث لا يمكن إلا أن يكون. إنها فلسفة العزاء المسموم. وهي أيضًا أم التاريخ. كم من مجازر ارتُكبت باسم الضرورة؟ كم من استعباد، من اضطهاد، من كذب أُلبس ثوب "لا مفرّ منه"؟

لكن دعونا لا نظلمها. أحيانًا تكون الضرورة رفيقة الإنسان حين يُفكر في حريته. كما كتب كانط، فإن الحرية لا تعني أن نتصرف دون سبب، بل أن يكون سبب فعلنا نابعًا منّا، من إرادتنا الأخلاقية، لا من ضغوط الخارج.

هل نحن أحرار؟ أم أن السؤال نفسه خطأ مطبعي؟

أنا حرّ حين أرفع يدي فجأة، بلا سبب. أو هكذا أظن. ثم أدرك أني فعلت ذلك فقط كي أقنع نفسي أني لست آلة. لكن هل هذا سبب؟ ألم تكن "رغبتي في الحرية" سببًا كافيًا لإلغاء حريتي؟

"أنا أفكر، إذن أنا موجود"، قال ديكارت، لكنه نسي أن يضيف: "وأنا أختلق الأعذار، إذن أنا بشر". نحن نعيش في وهم الاختيار، نقف عند مفترق طرق، نظن أننا نختار، بينما تسير أقدامنا حيث كُتب في الرواية أن نذهب.

وفي لحظة ضعف، نردد مع سيوران: "لو كان لي الخيار، لما اخترت أن أولد".

في مجتمع عادل، تُمارَس الحرية دون أن تدهس حرية الآخرين. هذا هو الحلم الجميل. لكن في الواقع، نعيش بين مطرقة الضرورة وسندان قوانين السوق. الحرية تُباع اليوم بالمتر، وتُقاس بعدد "اللايكات". كل شيء مسيّر، بما في ذلك تمردنا.

إقرأ أيضاً: صوت "الأنا" المزعج

والمجتمع الذي لا يربّي الإنسان على احترام الطبيعة – داخله وخارجه – مجتمع فاشل، مهما أطلق على نفسه من ألقاب. لقد نسينا الطبيعة، التي كانت يومًا إلهة، فحوّلناها إلى مكب نفايات. وكما كتب إدواردو غاليانو: "نحن نعيش في عالم يأكل فيه البشر كل شيء... إلا الجوع".

في النهاية، الصدفة هي اسم مستعار للجهل، والسبب هو اسم مستعار للندم، والضرورة هي اسم مستعار للعجز. كل شيء يحدث لأسباب لا نفهمها، وننسبه إلى الصدفة. كل شيء نندم عليه نبحث له عن سبب. وكل شيء نفشل في تغييره نسميه ضرورة.

أضحك، أيها القارئ الكريم، وأنت تبكي. فالحياة لا تُفسَّر، بل تُعاش، وغالبًا... تُندب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.