يبدو الحديث عن التطورات المتسارعة التي تشهدها العلاقات السعودية ـ الأمريكية موضوعاً يحظى باهتمام الدوائر الإعلامية والسياسية إقليمياً ودولياً بالنظر إلى إعتبارات عدة أهمها تاثير التحالف بين البلدين على منظومة الأمن والاستقرار الاقليمي، والثقل الذي يتمتع به البلدين في العلاقات الدولية بما يجعل أي حراك في العلاقات يؤثر بالتبعية في بقية المعادلات السائدة دولياً وإقليمياً، فضلاً عن الإعتبارات الأخرى لا تقل أهمية مثل أسعار مواد الطاقة وغير ذلك.
ما أعتقده هو أن العلاقات السعودية ـ الأمريكية لم تغرد بعيداً عن دائرة الإستهداف التي وضعها فيها الرئيس بايدن خلال حملته الإنتخابية رغم قيامه ـ على مضض ـ بزيارة للمملكة في يوليو الماضي، لأن الزيارة لم تنجح في معالجة الإشكاليات التي تعانيها شراكة البلدين التاريخية بسبب ارتهان الإصلاح بتحقيق المطلب الأمريكي الخاص بزيادة إنتاج النفط، ما يفاقم الأمر سوءاً لأن إختيار التوقيت والظروف لم يكن مناسباً لتحقيق هذا المطلب الذي يجافي التزامات الرياض حيال عضويتها في تحالف "أوبك+"، فضلاً عن كونه يتنافر مع المصالح الإستراتيجية السعودية وسياسات الحفاظ على أسعار مواد الطاقة بشكل عام، بعيداً عن أي حسابات سياسية أخرى تستهدف تسخير النفط وأسعاره من أجل الضغط على روسيا في إطار صراع النفوذ والهيمنة الدائر بينها وبين الغرب.
بعيداً عن مناقشة أسباب التدهور الذي لا يخفى على أحد في العلاقات السعودية ـ الأمريكية، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً الآن يتعلق بماهية "العواقب" التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن في معرض تعليقه على قرار "أوبك+"، واتهام الرياض بانحيازها إلى جانب روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وهل يعني ذلك إسدال الستار على علاقة التحالف التاريخية بين الرياض وواشنطن؟، لاسيما أن بعض المتخصصين يرون أن حالة التدهور الراهنة تفوق نظيرتها التي حدثت في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث كان هناك توجه من قطاعات واسعة من الساسة الأمريكية بشأن ضرورة الفصل بين القيادة السعودية والأسباب التي أدت إلى تورط عناصر سعودية في هذه الاعتداءات، لكن الحاصل الآن أن واشنطن باتت تستهدف الآن سياسات ولي عهد المملكة، الذي يمتلك قاعدة دعم وتأييد شعبية واسعة النطاق بفضل الإصلاحات التي يجريها والطموحات التي يحملها والتي ترسم مستقبلاً أفضل للمملكة وشعبها، وهو مستقبل يفترض أن يحظى بأقوى دعم أمريكي ممكن لو توافرت لدى الساسة الأمريكية رؤية إستراتيجية بعيدة المدى بعيداً عن طغيان فكرة الإملاءات التكتيكية التي تسببت في توتير مناخ العلاقات الثنائية.
التحالفات الأحادية أو ذات الإتجاه الواحد لم تعد تناسب واقع التداخل والتعقيد الذي تتسم به شبكة العلاقات الدولية في الوقت الراهن، ويجب أن نتذكر أن هذا الأمر لا يعني تغير الثوابت السعودية، بل يعكس تغير البيئة الإستراتيجية، فالأيديولوجيات قد سقطت بانهيار الإتحاد السوفيتي السابق، وبزغ عصر جديد قائم على المصالح المتبادلة وقواعد التجارة الدولية الذي كان الغرب الداعم والمروج الأساسي له في إطار "العولمة"، وليس أدل على ذلك من حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين على سبيل المثال، والذي تقول الجمارك الصينية أنه بلغ خلال الفترة بين يناير وأبريل من العام الجاري نحو 246 مليار دولار بزيادة تحو 11% عن الفترة المماثلة من العام السابق، وذلك رغم حجم التوترات الكبير الذي نستيقظ عليه يومياً.
في ضوء ماسبق، يمكن القول بأن وصف دعم الرياض لقرار "أوبك+" بشان خفض إنتاج النفط ليس "عملاً عدائياً"، كما يقول الديمقراطيون الأمريكيون، هي عمل إقتصادي بحت قائم على دراسة إتجاهات السوق ومؤشرات العرض والطلب، وفي ظل تشابك الإقتصاد والسياسة يبدو من البديهي أن تتلاقى المصالح أحياناً وتتضارب أحياناً اخرى، وهذا ما ينبغي على الجانب الأمريكي تفهمه لأن إستقرار أسواق الطاقة العالمية، يتطلب إستمرار التنسيق بين واشنطن من ناحية والرياض وغيرها من كبار المنتجين من ناحية أخرى، وما يجب على المشرعين الأمريكيين إستيعابه هو أن أمن الطاقة يكاد يعادل أمن الدول المنتجة، وبالتالي فإن المجازفة بهذه المسألة في لحظة إنفعالية تمثل مغامرة غير محسوبة ومجازفة باستقرار الإقتصادات الكبرى وفي مقدمتها الإقتصاد الأمريكي نفسه.
الشواهد تقول أن مستوى التدهور في العلاقات السعودية ـ الأمريكية يرتبط بعوامل عدة منها نتائج إنتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل، وهي الإنتخابات التي ربطها الديمقراطيون بالسعودية بشكل مباشر حين اتهموها بالتسبب في رفع أسعار مواد الطاقة، بل والوقوف خلف إصدار "أوبك+" لقرار خفض الانتاج، وفي ضوء صعوبة موقف مرشحي الحزب الديمقراطي في هذه الانتخابات، فإن العلاقات قد تكون بالفعل مرشحة للمزيد من التدهور، أو على أقل التقديرات الإستمرار على الحالة الراهنة حتى نهاية ولاية الرئيس بايدن بعد عامين، ولكن يجب الأخذ بالإعتبار أن المسألة هنا لا تتعلق بموقف بايدن الشخصي فقط بل بعلاقات الرياض مع الرؤساء الديمقراطيين بشكل عام، حيث يمكن إستنتاج تراجع في تقدير أهمية هذه العلاقات أو على الأقل مساع لإدارة بشكل مختلف عن ذي قبل، ويتضح ذلك في سياسات الرئيس الأسبق أوباما، والحالي جو بايدن. وهذه الخلاصة ليست للتعميم في المطلق لأن بايدن يمكن أن يتسبب قبل رحيله في دفع علاقات البلدين إلى مربع بعيد عن صيغة الشراكة والتحالف، التي حكمت علاقات البلدين منذ أربعينيات القرن العشرين.
الواقع يقول أن السعودية لا تدفع باتجاه إنهاء علاقات التحالف، ولكنها تسعى لما يمكن وصفه بإعادة هيكلة هادفة إلى إيجاد علاقات تشاركية تبادلية، تناسب ضخامة المصالح الاستراتيجية المشتركة التي تربط السعودية بالولايات المتحدة، واعتقد أن هذه المصالح هي بالأخير قد تكون عنصر لجم قوي يكبح جماح بايدن وغيره من المشرعين والساسة الديمقراطيين عن الذهاب بعيداً في معاداة المملكة، لأن كل ما يتم التلويح به كأوراق ضغط هو مصلحة أمريكية قبل أن تكون سعودية، وفي مقدمة ذلك تاتي مبيعات الأسلحة الضخمة للمملكة، حيث لا يمكن للشركات الدفاعية الأمريكية، بكل تأثيرها ونفوذها داخل دوائر صنع القرار الأمريكي، أن توافق على أي توجه خاص بتقليص هذه المبيعات ناهيك عن وقفها أو تجميدها.
العلاقات السعودية ـ الأمريكية ..هل ينهار التحالف التاريخي؟
مواضيع ذات صلة