في كتاب "الحكم الجيد" الصادر عن دار "السوي" عام 2015 والذي أثار جدلا واسعا خلال السنوات الماضية، يقود مؤلفه بيار روزانفلون اطروحات وأفكارا حول مفهوم الديمقراطية ،وحول وضعها في الزمن الراهن في ظلّ المتغيّرات العالميّة.
وفي مقدمة كتابه المذكور، كتب بيار روزانفلون يقول:”بإمكان أنظمة الحكم في بلداننا ان تدّعي أنها ديمقراطية ،غير أننا لا نحكم ديمقراطيا"، ومعلقا على هذه الفكرة هو يقول :”في أوقات الإنتخابات، يشعر المواطنون -الناخبون انهم يتحكمون حقّا في اللعبة السياسيّة. وهم بالفعل قادرون على أن يرفعوا من شأن هذا أو تلك، أو يحطون من شأنهما. غير أن ذلك لا يدوم سوى يوما واحدا. وحالما تنتهي الإنتخابات مع ما يرافقها من أكاذيب ومن خيبات ومن انتصارات، هم يعاينون أن السلطات تبتعد عنهم، وأن المصلحة العامة تصبح رهينة التجاذبات والنزاعات من مختلف الأشكال. وهذه القطيعة التراجيدية بين "اللحظة الإنتخابيّة"،و لحظة الحكم" تزداد استفحالا يوما بعد آخر”.
ويرى بيار روزلنفالون أن هناك بعدين لا بدّ من أخذهما بعين الإعتبار. البعد الأول يتمثل في أن اللغة التي ترافق العمليّة الإنتخابيّة تكون عادة قائمة على امكانيّة تغيير الواقع، وعلى الإكثار من الوعود. أما اللغة المتصلة بالحكم فهي تستوجب العودة الى الواقع، والتذكير بالعراقيل التي تحول دون تحقيق الطموحات التي يتطلع اليها الناخبون. وهذا التفاوت بين اللغتين قد يفضي الى عواقب لا تحمد عقباها. فقد يؤدي مثل هذا التفاوت الى الحط من قيمة السياسة، فيتكاثر عدد الذين يقاطعون الإنتخابات. بل قد يحوّل الانتخابات الى مجرد لعبة تقوم على الخداع والكذب وعلى التنصّل من الوعود. واعتمادا على هذا يعتقد بيار روزانفالون أن المجتمعات التي تعتقد انها محكومة ديمقراطيا هي في الحقيقة مجتمعات تعيش في ظلّ انظمة غالبا ما يكون الحكام فيها مقطوعين عنها. وأما الأحزاب في مثل هذه المجتمعات فهي منشغلة دائما وأبدا بالعلمية الإنتخابية وليس بالقضايا الأساسية التي تواجهها مجتمعاتهم.
وفي كتابه المذكور، يتحدث بيار روزانفالون عن ما يسميها ب"ديمقراطية التمرين". وهو يحدد مفهومها على النحو التالي :”إن الهدف من "ديمقراطية التمرين" هو تحديد المواصفات التي ننتظرها من الحكام ،والقواعد التي تنظم علاقاتهم بالمحكومين. في اقامة مثل هذه الديمقراطية يتحدد ما هو أساسيّ. وبالفعل فإن جانبها السلبي هو الذي يسمح للذي ينتخب على رأس التنفيذي بأن يقودنا في حالات معينة الى ظهور نظلم غير ليبيرالي، بل ديكتاتوري. وحاضرنا مليء بأمثلة من هذا النوع. وهذا ما نعاينه راهنا في بلدان مثل روسيا وتركيا وكازاكستان” .ويطرح بيار روزانفالون ثلاثة مبادئ يمكن أن تنهض على أسسها الديمقراطية الحقيقية .وتتمثل هذه المبادئ في الشفافية، وفي المسؤولية وفي قابلية ردّ الفعل. ومثل هذه المبادئ تسمح للناخبين بحسب رأيه بأن يمارسوا وظائفهم الديمقراطية بصفة فعلية، وبأن يكونوا مراقبين لما يحدث بصفة دائمة .وهذا يعني أن تكون لهم نفس وظيفة نواب البرلمان. عندئذ يمكنهم أن يظهروا أن الحكم هو في الحقيقة والواقع علاقة مستمرة بين الحاكم والمحكوم، وليس مجرد عملية انتخابية. وعلى الحاكم أن يتحلى بالصراحة وبالوضوح والمصداقية في ما يفعل وفي ما يقول.
وعن الحركات السياسية الجديدة التي ظهرت في زمن العولمة مثل "اوكيبي ستريت"، و"الساخطون"، و"وبوديموس" في اسبانيا يقول بيار روزانفالون:”هذه الحركات تريد أن تنهي زمن الأحزاب القديمة التي لم تعد قادرة على مواكبة قضايا العصر، والمقطوعة عن مجتمعاتها. وهناك أيضا ضرورة البحث عن طرق جديدة للتمثيلية السياسية المباشرة للمجتمع .لذلك علينا أن نبعث للوجود حركات تكون مهمتها الحث على وجود نظام حكم جيد، والمطالبة بالمزيد من الشفافية ،ومن المراقبة، وتوفير الوسائل اللازمة لمكافحة الفساد. على أن يكون الهدف الحقيقي لمثل هذه الحركات لا السلطة وإنما المراقبة والعمل على أن يكون نظام الحكم في خدمة المواطنين.
ويرى بيار روزانفالون أن ما أضعف الديمقراطية هو الإنهاك الذي تعاني منه المؤسسات، وبروز طبقة سياسية تزداد يوما بعد آخر انقطاعا عن المجتمع. لذلك وجب التذكير بأن الديمقراطية هي في الأصل شكل من أشكال المجتمع .لذلك لا بد من المساواة بين مختلف الطبقات,. في اعدام مثل هذه المساواة، تصبح الديمقراطية ملغاة أصلا، ويصبح الحديث عنها مجرد لغو".

