: آخر تحديث

أن نفكر يعني أن نتعلم من أخطائنا

55
55
51
مواضيع ذات صلة

لا يحبّ الفرنسيّ جاك أتّالي المولود في الجزار عام 1943 أن يغيب عن أيّ مجال من المجالات المهمّة التي تتطلّب الحنكة والذّكاء، وبُعْدَ النظر، والثقافة الواسعة، والمعرفة الدقيقة بالماضي والحاضر، وربّما المستقبل. فهو سياسيّ بارع اختاره ميتران مستشارا له في الثمانينات من القرن الماضي ليكون إلى جانبه في قصر "الإيليزيه" على مدى سنوات طويلة. وهو روائي غزير الإنتاج، وناقد مرموق، وكاتب سير لشخصيّات تاريخية كبيرة، وموسيقيّ متقن لفنّه. واعتمادا على مواهبه المتعدّدة هذه، هو يرغب دائما في مفاجأة أحبائه في المجالات المذكورة بما ينفعهم، ويفيدهم، ويمتعهم أيضا.
وفي خريف عام2012، أصدر جاك أتّالي كتابا عن الفيلسوف الفرنسي الكبير دنيس ديدرو الذي كانت فرنسا قد احتفلت آنذاك بمرور ثلاثة قرون على ميلاده.

عنوان الكتاب:”ديدرو أو السّعادة في أن نفكّر". ومقُارنا بينه وبين المعاصرين له، أي فولتير وروسو، يقول جاك أتّالي :”بالنسبة لي هو الأهم في حلقة فلاسفة الأنوار. فهو رجل ذكيّ بشكل هائل، إنتـقائيّ، مؤثّر، لا يكلّ ولا يملّ من العمل. وهو بحر من العلم أسّس اعتمادا على "الموسوعة "، قاعدة الثّورة السياسيّة، والفلسفيّة، والإقتصاديّة في أوروبا. بالإضافة إلى كلّ هذا، أجد نفسي مَفْتونا بطريقته في كتابة رسائل الحبّ. وأنا أرى أنه ليس باستطاعتنا أن نكتب اليوم رسائل حبّ من دون أن نستوحي منه آلافا من الإبتكارت التي يستخدمها بهدف ختم رسائله بطريقة عذبة، رقيقة، أنيقة، شبقيّة، ساخرة، وسامية، جاعلا من كلّ جملة عملا فنّيّا بديعا”.

ويضبف أتالي أنه في حين ترك كل من فولتير وروسو فرنسا في فترات من حياتهما، فضّل ديدرو البقاء في بلاده ليكون شاهدا على أحداث هامة وخطيرة سبقت الثورة الفرنسية. لذلك يمكن القول أنه فهم كلّ شيء بخصوص عالم كان كان على وشك أن يرحل، وعالم كان على وشك أن يولد. لذا كان رائيا، ورائدا، ومُساجلا بارعا، وصارما. ومتحرّرا من الإلتزامات. كما أنه كان يرفض التّسويات، ويتحدّى كبار الشخصيّات في عصره. وقد سُجن بسبب حرّيه في التّفكير. وبفضل "الموسوعة " كان آخر رجل استوعب علوم عصره. فعل كلّ هذا مع المحافظة على "نبل قلبه”.

ويرى جاك أتّالي أنّ أعمال ديدرو الفلسفيّة، والرّوائيّة، وغيرها، تعكس جيّدا أحداث القرن الثّامن عشر، وما تميّز به في العديد من المجلات السّياسيّة، والإقتصاديّة، والإجتماعيّة. فقد كانت فرنسا في ذلك الوقت بلدا غنيّا لكنه لم يكن قادرا على تنفيذ إصلاحات. لذا كانت مشلولة. وكان الوضع الماليّ كارثيّا. أمّا على المستوى العالمي، فقد كانت الصّين قوّة ديمغرافيّة كبرى، وفيها كانت هناك إنتفاضات من أجل الحرية مثلما هو الحال اليوم في العالم العربي. وبفضل اكتشافات بوغنفيل وكوك، بدأ يتشكّل نوع من العولمة. وكان ديدرو يرى أن حقوق الإنسان مرتبطة بواجباته أيضا. ففي القديم، في العالم الذي يتحكّم فيه الدّين، مثلا، لم يكن للنّاس غير الواجبات. ثم أصبح الوضع معكوسا ولم يعد يؤخذ بعين الإعتبار غير الحقوق. والحقيقة أنه لا بدّ من احترام الحقوق والواجبات معا. وهذا ما أدركه ديدرو بحسب جاك أتّالي، لذا كان محرّكا للتّاريخ. وهذا ما تدلّ عليه الرّسالة التي بعث بها إلى الملك لويس السّادس عشر، حيث كتب له يقول: ”إذا ما أنتم غير قادرين على الفصل في مصلحة الشّعب، فإنّ الشّعب سيستعمل نفس السكّين لكي يقطعكم إلى نصفين".

وعن السّعادة في التفكير عند ديدرو ، يقول جاك أتّالي بإن هناك اليوم مفكّرين كبار في أنحاء مختلفة من العالم. والفلسفة نشطة جدّا كما لم يحدث ذلك من قبل. فقط يجدر بنا ألاّ نستسلم لعبث التّسلية، وألاّ نُهْمل ضرورة التّفكير، مثلما هو الشّأن في العديد من الحالات. في حين أن التّفكير نشاط مجانيّ ، ومنبع للذّة والمتعة. أن نفكّر يعني أن نتعلّم كيف أن نتعلم من أخطائنا لكي تكون لنا حياة داخليّة مستقرة لأن التّفكير هو السّعادة. وهو الشّكل الأقصى للتحرّر، والتّفتّح. وهو نشاط أساسي يميّزنا عن الحيوان. والتفكير هو أيضا نشاط سياسي، والحقّ والواجب في التّفكير هما من جملة الحقوق والواجبات بالنّسبة للإنسان...
**

اعتمادا على ما سبق يمكن القول إن العرب هم في الزمن المعاصر أكثر الشعوب التي راكمت الأخطاء من دون أن تستفيد منها...

والسبب أن النخب التي تقودها لا تفكر، بل تنفعل، وترد الفعل بطرق عمياء وعشوائية...

لذلك لم يستفد العرب من هزيمة حرب 67 التي جرّت عليهم واحدة من أفظع الهزائم وأشنعها عبر تاريخهم الطويل... وهكذا راحت الهزائم تتوالى عليهم الواحدة بعد الأخرى، فلا يخرجون من واحدة إلاّ لكي تعصف بهم واحدة جديدة قد تكون أقسى من السابقة... وهذا ما حدث مع صدام حسين الذي دفعه تهوره إلى جر بلاده إلى حروب متتالية انتهت بتمزيق أوصالها، واغراقها في الفتن القاتلة والمدمرة...

ولم يستفد العرب من خطأ حكامهم  المتمثل في التشبث بالحكم، والانفراد به ناسين تحذير ابن خلدون من ذلك مشيرا في مقدمته الشهيرة إلى أن الانفراد بالحكم، والتشبث به يؤديان إلى هرم الدولة وتفتتها. وهذا ما حدث  مع الحكام العرب الذين أطاحت بهم انتفاضات ما سمي ب"الربيع العربي". ولو أنهم أدركوا قبل فوات الأوان أن التداول على السلطة هو الأفضل لتجنيب بلدانهم مخاطر الفوضى والفتن والمؤامرات الداخلية والخارجية لما أصبحت الأوضاع بعد سقوطهم أشد هولا وسوءا من السابق...

والعرب لم يستفيدوا من ضرورة فصل الدين عن الدولة إذ أن التجارب الكثيرة  عبر التاريخ دلت على أن تدخل الدين في الشؤون الدنيوية يؤدي إلى انشقاقات وإلى انقسامات وإلى تكاثر الملل والنحل التي تضطر إلى التقاتل والتناحر من أجل فرض وجودها، مُشعلة حروبا دينية وعقائدية مهلكة. وكان ابن خلدون قد حذّر في مقدمته من تدخل الفقهاء ورجال الدين في السياسة قائلا بأن "المُنْتَحلين للعبادة" يظهرون للناس في البداية وكأنهم دعاة انتصار الحق على الباطل، والنهي عن المنكر، ورفع المظالم على الناس إلا أنهم سرعان ما ينقلبون على أنفسهم، وعلى مواعظهم كاشفين عن مطمحهم الحقيقي الذي هو الاستحواذ على السلطة، وفرض نظام غالبا ما يكون أشد ظلما وقهرا للشعوب من الأنظمة السابقة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.