فيما يتعلق بالدور الإيجابي لفرنسا حكومةً وشعباً ومواقفهم الإنسانية تجاه قضية الشعب السوري عموماً والكرد ضمناً، كنا قد مررنا شذرات من الود في سياق مقالة سابقة، ولقد قمنا باختصار المادة تلك لئلا نطيل على القارئ فيمل من بطاقة الود التي تتطلب بعضاً من الاختزال، وبما أننا مانزال في وارد التنويه بدور أناس يفوح الطيب من محياهم كما تفوح الزهرة بروائحها العطرة على كل من احيط بها، لذا سأنتقل أدناه من الشكر الخاص إلى العام المتعلق بفرنسا وشعبها ككل، وأعرج سريعاً على البعض من أقطابها الفكرية والأدبية.
مع أن الاقتراح بدايةً كان متعلقاً بشكر بعض العوائل الفرنسية التي استقبلت بكل محبة في بيوتها لاجئين سوريين بينهم الكرد وباقي المكونات، فاحترت بدايةً وفكرت ملياً متسائلاً: كيف يا ترى علي أن أرسل بطاقة حبٍ باللغة العربية لأناسٍ لن يعرفوا عنها شيء، وأعرف جيداً بأنه حتى لو قام أحدهم بترجمة المقالة، فإن الترجمة حتماًستفقد الروح العطرة التي أبغي إيصالها إلى مَن أقصدهم بالرسالة عبر كلمات هذه اللغة؟ كيف علي أن أبدأ رسالتي بالشكر لعوائل فرنسية احتضنت أناساً كان من الممكن أن يتعرض الواحد منهم إلى شتى صنوف المخاطر قبيل تبنيهم من قبل عوائل فرنسية، كما كان من المحتمل أن تتقهقر أو تموت مع الزمن مواهب وطموحات وأحلام معظم أولئك، إذا ما طالت فترة مكوثَهم على صفيح الظروف القاهرة في دول الجوار السوري.
كيف أبدأ بشكر عوائل تجاوزت بفيض طيبهتها الإنسانية حالة إيواء الملتجئ في منازلها، وغدت كل عائلة لهم بمثابة الأباء والأمهات، ومع أني أفشل عادة بصياغة ديباجات الشكر والعرفان، إلا أني موقنٌ بأن أولئك الذين تبنوا بحب عشرات البراعم من بلادي يستحقون مني كصحفي أن أشهر بجميلهم على الملأ، أن أتحدث عن نبلهم بين الأصدقاء والمعارف، متصوراً بأن نشر أخبار الخيرين يدفع الناس للإقتداء بهم، وإذاعة قصص المعطائين قد تساعد على انتشار ثقافة العطاء، وذلك بخلاف العادة المعمول بها في الشرق الأوسط عموماً وفي بلدنا بوجهٍ خاص، حيث يوصى الأحياء فيها بأن يتحدثوا عن محاسن موتاهم بعد مغادرتهم للدنيا، فيا ترى أليس مؤلماً للإنسان الذي يقدم كل ما بوسعه للناس، بينما الناس تبخل بحقه حتى بكلمات الشكر وهو على قيد الحياة؟ أليس إجحافاً بحق الإنسان أن لا ينال الشكر على ما فعله إلا بعد رحيله؟ هذا مؤلم وسيء بتصوري وغير مرضي للضمير، لأنه ما من فائدة قط لتحية المرء بعد مغادرته، وما جدوى الشكر أصلاً بعد أن يغادر دنيانا مَن يستحق أكثر من الشكر والتقدير، أوالإنحناء أمام عظمة عطاء ذلك المحسن وهو ينبض بالحياة قبالنا، وينشر طيبه كل يومٍ حولنا.
لذا أعتقد وأنا مائل نحو الجزم، بأن من يمتنع عن شكر كل من يقوم بأفعال الخير بدون مقابل هو ينتمي الى فيلق الكافرين بالنِعم، ومن يستكثر الشكر لمن يقدم كل جميلٍ في هذه الدنيا هو إنسان جاحد وناكر للجميل، بل ويدل تصرفه على أنه يجافي الحق والإنصاف، وغير قادر على أن يوهب ويرد الجميل، وأرى بأن مَن لا يقدر على أن يهب المُعطي بعبارات جميلة هو لا شك مناهض لثقافة الإحسان، طالما أن بطاقة الشكر لا تكلفه إلا بعض الجُمل التي إن قيلت تنشرح بها أسارير مَن تُقال لهم تلك العبارات، هو إذاً كائنٌ شحيحٌ يجافي العدل، ولا يستطيع أن يحمل ميزان الحق الذي حمله منذ ما قبل الميلاد الفيلسوف الاغريقي أرسطو الذي فضّل الحق حتى على صديقه أفلاطون، وذلك بقوله "إنّ أفلاطون صديق والحقّ صديق ولكنّ الحقّ أصدق".
وبما أننا مانزال في وارد الشكر والعرفان، يطيب لي من جانبٍ شخصي كصحفي غَرف من مناهل الثقافة الفرنسيةعبر الترجمة، أن أشكر فرنسا كلها من خلال أولئك الأفراد، وكيف لا نشكر فرنسا وهي التي قدّمت للعالم كواكب فكرية لا تزال تضيء سماء البشرية، ومنهم على سبيل الذكر وليس الحصر الفيلسوف رينيه ديكارت صاحب منهج التفكير كأهم ميزة للإنسان قائل الجملة المشهورة "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، كأحد أعمدة المنطق الاستنتاجي الذي يبدأ بفكرة عامة مجردة ومن ثم يتجه رويداً رويدا وبخطوات دقيقة نحو استنتاج معين، وكذلك بالكاتب فرانسوا ماري أرويه المعروف باسم فولتير والذي استشعرت شخصياً من خلال كتابه (كانديد) أهمية وقدسية العمل، حيث ركّز المؤلف في ذلك الكتاب على أن العمل يُجنب الإنسان ثلاثة شرور عظيمة وهي: الفاقة، الرذيلة والملل، وكذلك جان جاك روسو الذي يعتبر الأب الفكري للثورة الفرنسية في عام 1789، من خلال كتاباته حول حرية الإنسان، والمساواة، وسيادة الشعب، والعودة إلى الطبيعة، وأيضاً جان بول سارتر المنظّر والمجسّد الحي للمثقف الشعبي (العضوي)، الذي واجه جميع المؤسسات القوية في زمنه، مثل الدولة البرجوازية والحزب الشيوعي والنظام الشمولي، وكذلك زوجته ورفيقة دربه سيمون دي بوفوارالكاتبة التي تطرقت في أعمالها للفلسفة والسياسة والقضايا الاجتماعية، وبما أننا بزمنٍ قاسٍ أشبه بالزمن الذي عاشه الفرنسيون ابان الاحتلال النازي فلا زلت أتذكر الطريقة الرائعة لرفض الاحتلال من خلال الصمت المطبق والتزام السكون التام في حضرة المحتل، كما عبر عن ذلك (فيركور) في روايته (صمت البحر)، أما من نجوم الشعر فمن الذين لازلت أستمتع كل حينٍ بقصائدهم: لويس آراغون صاحب عيون إلزا، وكذلك صاحب ديوان (الكلمات) الشاعر الخلاق جاك بريفر وقصيدته الرائعة ( كيف ترسم صورة طائر)، وكيف ننسى بول ايلوار الذي كتب اسم الحرية بمداد شاعرٍ محبٍ موجوع، وحقيقة قد لا تكفينا مجلدات عن سرد الدور التنويري للفرنسيين، ولكني في الختام وبما أن الحرب التي يعيشها الناس في بلادنا ذاقها الفرنسيون قبلنا بعشرات السنين، فكل يوم أتذكرما جاء في (سيكولوجية الجماهير) لعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، ذلك الكتاب الملهم الذي تحدث فيه المؤلف أنذاك عن العيوب القطيعية للجماهير وأمراض المجتمع الفرنسي، وبكل أسف فبعد مئة عام من صدور السفر المذكور فها نحن نعيش نفس تلك الفصول التي تحدث عنها (لوبون) في عمله الجليل ذاك، وباعتبار أن ظروف الحرب التي نمر بها منذ ست سنوات، والتي قتلت وشردت وهجرت الآلاف من الناس، ودمرت ليس المراكز الحيوية والمؤسساتالمدنية والبنية التحتية للبلاد فقط، إنما حطمت أيضاً في داخل كل واحدٍ منا عشرات الأشياء الجميلة، لذا فليس من باب جلب العطفِ، وليس بدافع خلق حالة تراجيدية في ختام بطاقة الشكرِ، وليس من باب اليأس والتشاؤم نقول: بأن ما حصل (للمزهرية المشروخة) للشاعر الفرنسي سلي برودوم هو عينه الذي حصل لبُنيان وشغاف قلوب عشرات الآلاف من السوريين الباقين على قيد الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة: فلكي لا يذهب القارئ المتفهمن أو المتحاذق بعيداً بتصوراته ويعتقد بأن ثمة مصلحة شخصية ما كامنة خلف كتابة هذه المادة أو إرسال هذه البطاقة، فأقول لأمثاله الانتهازيين، بأني كفرد لم اسجل اسمي يوماً بالسفارة الفرنسية أو غيرها من سفارات العالم الغربي، حتى أحصل بموجب ذلك الارتماء على حق الالتجاء في فرنسا أو غيرها من الدول الأوربية، باعتبار أن جحيمَ وجودي في تركيا حتى اللحظة لا يزال يُشعرني بأهمية ذاتي كشخصٍ حقيقيٍّ منتجٍ وفاعل، لذا فلا رغبة لدي بالوصول إلى الفراديس الأرضية لأهل الدنيا هناك، كما وفي الوقت نفسه لا يعنينيقط ذلك الفردوس السماوي الذي يسعى للوصول إلى ضفافه الملايين من اخواننا المتدينين.